الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
804 - " إذا كان يوم الجمعة؛ كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على قدر منازلهم؛ الأول فالأول؛ فإذا جلس الإمام طووا الصحف؛ وجاؤوا يستمعون الذكر؛ ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة؛ ثم كالذي يهدي بقرة؛ ثم كالذي يهدي الكبش؛ ثم كالذي يهدي الدجاجة؛ ثم كالذي يهدي البيضة " ؛ (ق ن هـ)؛ عن أبي هريرة .

التالي السابق


(إذا كان) ؛ هي هنا تامة؛ وفيما مر؛ فلا تحتاج إلى خبر؛ والمعنى: إذا وجد؛ (يوم الجمعة؛ كان على كل باب من أبواب [ ص: 422 ] المسجد) ؛ لامه للجنس؛ أو للاستغراق؛ فالمراد جميع المساجد؛ وخصها لأن الغالب إقامة الجمعة في مسجد؛ (ملائكة) ؛ بالتنكير؛ للتكثير؛ لمناسبة المصلين؛ أي: جمع كثير من الملائكة؛ وهم هنا غير الحفظة؛ كما يفيده قوله الآتي: " طووا الصحف" ؛ فوظيفة هؤلاء كتابة من يحضر الجمعة أولا فأولا؛ واستماع الذكر؛ (يكتبون الناس) ؛ أي: أجور المجتمعين؛ (على قدر منازلهم) ؛ أي: مراتبهم في المجيء؛ ولهذا قال: (الأول) ؛ أي: ثواب من يأتي في الوقت الأول؛ (فالأول) ؛ أي: يكتبون ثواب من يجيء بعده في الوقت الثاني؛ سماه " أولا" ؛ لأنه سابق على من يجيء في الوقت الثالث؛ فـ " الأول" ؛ هنا؛ بمعنى: الأسبق؛ وقال في شرح المصابيح: " الأول فالأول" ؛ نصب على الحال؛ وجاءت معرفة؛ وهو قليل؛ وقال الزركشي: " الأول فالأول" ؛ نصب على الحال؛ أي: مرتبين؛ وجاز مجيئهما معرفة على الشذوذ؛ (فإذا جلس الإمام) ؛ أي: صعد المنبر؛ وجلس عليه للخطبة؛ (طووا) ؛ أي: الملائكة؛ (الصحف) ؛ صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة؛ لا غيرها من أعمالها؛ فإنه إنما يكتبها الحافظان؛ وهي جمع " صحيفة" ؛ الورقة التي يكتب فيها؛ وفي استماع الملائكة الخطبة حث على استماعها لنا؛ وهو سنة؛ وإن كان سماعها واجبا؛ (وجاؤوا يستمعون الذكر) ؛ أي: الخطبة؛ فلا يكتبون ثواب من يجيء في ذلك الوقت؛ (ومثل المهجر) ؛ أي: وصلاة الآتي في أول ساعة؛ وهو اسم فاعل من " هجر؛ يهجر" ؛ إذا بكر؛ وأتى الأمر من أوله؛ أو من " هجر منزله" ؛ إذا تركه أي وقت كان؛ وكيفما كان؛ ليس من " الهاجرة" ؛ التي هي شدة الحر؛ كما زعمه المالكية؛ (كمثل) ؛ بزيادة الكاف؛ أي: مثل؛ (الذي يهدي) ؛ بضم أوله: أي: يقرب؛ (بدنة) ؛ أي: يتصدق ببعير - ذكرا أو أنثى - متقربا إلى الله؛ فالهاء للوحدة؛ لا للتأنيث؛ قال في الكشاف: سميت به لعظم بدنها؛ وهي للإبل خاصة؛ وقال غيره: للتبدن؛ وللبدانة: السمن؛ وفي رواية ابن جريج عن عبد الرزاق : " فله من الأجر مثل الجزور" ؛ وظاهره أن الثواب لو تجسد؛ كان قدره؛ (ثم كالذي يهدي بقرة) ؛ ذكرا أو أنثى؛ فالهاء للوحدة؛ سميت به لأنها تبقر الأرض؛ أي: تشقها؛ وهذا خبر مبتدإ محذوف؛ تقديره: " ثم الثاني" ؛ أي: الآتي في الساعة الثانية كالذي يهدي بقرة؛ وليس معطوفا على الخبر الأول؛ لئلا يقعا معا؛ مع عدم اجتماعهما خبرا عن واحد؛ وهو ممتنع؛ وكذا يقدر في الثلاثة الآتية؛ وانحطاط رتبة البقرة هنا عن البدنة موافق لما في الأضحية؛ من حيث الأفضلية المناسبة لما هنا؛ ومخالف له من حيث إجزاء كل منهما عن سبعة؛ ثم وفرق بأن المعتبر هنا كبر الجسم في البدنة؛ مع كونها أحب أموال العرب؛ وأنفسها عندهم؛ وثم كثرة اللحم؛ وأطيبيته؛ وهو في البدنة أكثر؛ وفي البقرة أطيب؛ فيعتدلان؛ فسوى بينهما؛ (ثم كالذي يهدي الكبش) ؛ فحل الضأن في أي سن كان؛ أو إذا أربع؛ أو إذا أثنى؛ ووصفه في رواية بكونه أقرن؛ لكماله؛ وحسن صورته؛ ولأن قرنه ينتفع به؛ وفي صحيح ابن خزيمة : " شاة" ؛ بدل " الكبش" ؛ وهي محمولة عليه؛ (ثم كالذي يهدي الدجاجة) ؛ بتثليث الدال؛ والفتح أفصح؛ وفي صحيح ابن خزيمة : " طائرا" ؛ بدل " الدجاجة" ؛ وهي محمول عليها؛ واستشكل التعبير بالهدي في " الدجاجة" ؛ و" البيضة" ؛ بأنه لا يكون منهما؛ وأجيب بأنه من باب المشاكلة؛ أي: من تسمية الشيء باسم قرينه؛ والمراد بالهدي هنا: التصدق؛ (ثم كالذي يهدي البيضة) ؛ بيضة دجاجة؛ كما هو المتبادر؛ وفي النسائي - بعد " الكبش" -: " بطة" ؛ ثم " دجاجة" ؛ ثم " بيضة" ؛ وفي رواية - بعد " الكبش" -: " دجاجة" ؛ ثم " عصفورا" ؛ ثم " بيضة" ؛ وإسنادهما صحيح؛ وبذلك يتضح استيعاب الست الساعات التي هي نصف النهار؛ وليس المراد بها الفلكية؛ كما في الروضة؛ تبعا للنص؛ لئلا يستوي الإتيان في طرفي ساعة؛ بل أوقات تترتب فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة؛ لكن في المجموع؛ وشرح مسلم : المراد: الفلكية؛ لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الأخير؛ وبدنة المتوسط متوسطة؛ وفي اعتناء الملائكة بكتابة السابق؛ دلالة على ندب التبكير إليها؛ وهو ما عليه الأئمة الثلاثة؛ وذهب مالك وبعض الشافعية كإمام الحرمين إلى أفضلية [ ص: 423 ] تأخير الذهاب إلى الزوال؛ وأشعر قوله [في إحدى الروايات]: " فإذا خرج الإمام طويت الصحف" ؛ أنه مستثنى من ندب التبكير؛ لدلالته على أنه لا يخرج إلا بعد انقضاء وقت التبكير؛ فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة؛ اتباعا للمصطفى؛ وخلفائه.

(ق ن هـ؛ عن أبي هريرة ) .



الخدمات العلمية