الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
8688 - من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي (حم خ ت) عن أنس .

التالي السابق


(من رآني في المنام) أي في حال النوم، وقال العصام: في وقت النوم - فيه نظر - أي رآني بصفتي التي أنا عليها وهكذا بغيرها على ما يأتي إيضاحه (فقد رآني) أي فليبشر بأنه رآني حقيقة، أي حقيقتي كما هي، فلم يتحد الشرط والجزاء، وهو في معنى الإخبار، أي من رآني فأخبره بأن رؤيته حق ليست بأضغاث أحلامية، ولا تخيلات شيطانية، ثم أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى وتعليل للحكم فقال (فإن الشيطان لا يتمثل بي) وفي رواية لمسلم: فإن الشيطان لا ينبغي له أن يتشبه بي، وفي أخرى له: لا ينبغي أن يتمثل في صورتي، وفي رواية لغيره: لا يتكونني، وذلك لئلا يتدرع بالكذب على لسانه في النوم وكما استحال تصوره بصورته يقظة؛ إذ لو وقع اشتبه الحق بالباطل، ومنه أخذ أن جميع الأنبياء كذلك، وظاهر الحديث أن رؤياه صحيحة وإن كان على غير صفته المعروفة، وبه صرح النووي مضعفا لتقييد الحكيم الترمذي وعياض وغيرهما بما إذا رآه على صورته المعروفة في حياته، وتبعه عليه بعض المحققين ثم قال: فإن قيل: كيف يرى على خلاف صورته المعروفة ويراه شخصان في حالة واحدة في مكانين والبدن الواحد لا يكون إلا في مكان واحد؟ قلنا: التغيير في صفاته لا في ذاته، فتكون ذاته حيث شاء الله، وصفاته متخيلة في الأذهان، والإدراك لا يشترط فيه تحقق الإبصار ولا قرب المسافة ولا كون المتخيل ظاهرا على الأرض حيا حياة دنيوية، وإنما الشرط كونه موجودا اهـ. وما ذكر ملخص من كلام القرطبي حيث قال: اختلف في معنى الحديث، فقال قوم من القاصرين: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كما يرى في اليقظة، وهو قول يدرك فساده ببادئ العقل؛ إذ يلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه اثنان في وقت واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويخاطب الناس ويخلو قبره عنه فيزار غير جثته ويسلم على غائب لأنه يرى ليلا ونهارا على اتصال الأوقات، وهذه جهالات لا يتفوه بالتزامها من له أدنى مسكة من عقل، وملتزم ذلك مختل مخبول، وقال قوم: من رآه بصفته فرؤياه حق، أو بغيرها فأضغاث أحلام، ومعلوم أنه قد يرى على حالة مخالفة، ومع ذلك تكون تلك الرؤيا حقا، كما لو رئي قد ملأ بلدا أو دارا بجسمه، فإنه يدل على امتلاء تلك البلدة بالحق والشرع وتلك الدار بالبركة، وكثيرا ما وقع ذلك، قال: والصحيح أن رؤيته على أي حال كان غير باطلة ولا من الأضغاث، بل حق في نفسها، وتصوير تلك الصورة وتمثيل ذلك المثال ليس من الشيطان، بل تمثيل الله ذلك للرائي بشرى فينبسط للخير، أو إنذار فيزجر عن الشر، أو تنبيه على خير يحصل، وقد ذكرنا أن المرئي في المنام أمثلة المرئيات لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارة تطابق حقيقة المرئي وتارة لا، وأن المطابقة قد تظهر في اليقظة على نحو ما أدرك في النوم وقد لا، فإذا لم تظهر في اليقظة كذلك فالمقصود بتلك الصورة معناها لا عينها، ولذا خالف المثال

[ ص: 132 ] صورة المرئي بزيادة أو نقص أو تغير لون أو زيادة عضو أو بعضه، فكله تنبيه على معاني تلك الأمور اهـ. وحاصل كلامه أن رؤيته بصفته إدراك لذاته، وبغيرها إدراك لمثاله، فالأولى لا تحتاج لتعبير، والثانية تحتاجه، ولسلفنا الصوفية ما يوافق معناه ذلك وإن اختلف اللفظ، حيث قالوا: هنا ميزان يجب التنبيه له، وهو أن الرؤية الصحيحة أن يرى بصورته الثابتة بالنقل الصحيح، فإن رآه بغيرها كطويل أو قصير أو شيخ أو شديد السمرة لم يكن رآه، وحصول الجزم في نفس الرائي بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم غير حجة، بل ذلك المرئي صورة الشرع بالنسبة لاعتقاد الرائي، أو خياله، أو صفته، أو حكم من أحكام الإسلام، أو بالنسبة للمحل الذي رأى فيه تلك الصورة، قال القونوي كابن عربي: وقد جربناه فوجدناه لم ينخرم، قالوا: والمصطفى صلى الله عليه وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحق وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحق الهداية والاسم الهادي، والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة، فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصورة الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم خلق للهداية، فلو ساغ ظهور إبليس بصورته زال الاعتماد عليه، فلذلك عصم صورته عن أن يظهر لها شيطان، فإن قيل: عظمة الحق تعالى لا صورة له معينة توجب الاشتباه بخلاف النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وأيضا مقتضى حكمة الحق أن يضل ويهدي من يشاء، بخلاف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه مقيد بالهداية ظاهر بصورتها، فتجب عصمة صورته من مظهرية الشيطان اهـ، وقال عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤية الله في النوم، وإن رئي على صفة لا يليق بجلاله من صفات الأجسام لتحقق أن المرئي غير ذات الله؛ إذ لا يجوز عليه التجسم ولا اختلاف الحالات بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت رؤيته تعالى في النوم من باب التمثيل والتخييل، وقال ابن العربي: في رؤية الله في النوم أوهام وخواطر في القلب بأمثال لا تليق به في الحقيقة ويتعالى عليها، وهي دلالات للرائي على أمر كان ويكون كسائر المرئيات، وقال غيره: رؤيته تعالى في النوم حق وصدق لا كذب فيها في قول ولا فعل

(حم خ ت عن أنس ) قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، قال المصنف: والحديث متواتر.



الخدمات العلمية