الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
89 - " أتاني جبريل؛ فقال: يا محمد؛ عش ما شئت؛ فإنك ميت؛ وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه؛ واعمل ما شئت؛ فإنك مجزي به؛ واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل؛ وعزه استغناؤه عن الناس " ؛ الشيرازي؛ في الألقاب؛ (ك هب) ؛ عن سهل بن سعد ؛ (هب)؛ عن جابر ؛ (حل)؛ عن علي؛ (صح).

التالي السابق


(أتاني جبريل؛ فقال) ؛ لي: (يا محمد) ؛ خاطبه به؛ دون " رسول الله" ؛ أو " النبي" - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه المناسب لمقام الوعظ والتذكير؛ والإيذان بفراق الأحباب؛ والخروج من الدنيا؛ ودخول الآخرة؛ والحساب؛ والجزاء؛ وبدأ بذكر الموت؛ لأنه أفظع ما يلقاه الإنسان؛ وأبشعه؛ فقال: (عش ما شئت؛ فإنك ميت) ؛ بالتشديد؛ والتخفيف؛ أي: آيل إلى الموت عن قرب؛ فهو مجاز باعتبار ما يكون في المستقبل قريبا قطعا؛ (وأحبب) ؛ بفتح الهمزة؛ وكسر الموحدة الأولى؛ (من شئت) ؛ من الخلق؛ (فإنك مفارقه) ؛ بموت؛ أو غيره؛ وما من أحد في الدنيا إلا وهو ضعيف؛ وما بيده عارية؛ فالضيف مرتحل؛ والعارية مردودة؛ قال الغزالي: القصد بهذا تأديب النفس عن البطر والأشر والفرح بنعيم الدنيا؛ بل بكل ما يزايله بالموت؛ فإنه إذا علم أن من أحب شيئا يلزمه فراقه؛ ويشقى لا محالة بفراقه؛ شغل قلبه بحب من لا يفارقه؛ وهو ذكر الله؛ فإن ذلك يصحبه في القبر؛ فلا يفارقه؛ وكل ذلك يتم بالصبر أياما قلائل؛ فالعمر قليل بالإضافة إلى حياة الآخرة؛ وعند الصباح يحمد القوم السرى؛ فلا بد لكل إنسان من مجاهدة فراق ما يحبه؛ وما فيه فرحه؛ من أسباب الدنيا؛ وذلك يختلف باختلاف الناس؛ فمن يفرح بمال؛ أو جاه؛ أو بقبول في الوعظ؛ أو بالعز في القضاء والولاية؛ أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة؛ يترك أولا ما به فرحه؛ ثم يراقب الله؛ حتى لا يشتغل إلا بذكر الله؛ والفكر فيه؛ ويكف عن شهواته ووساوسه؛ حتى يقمع مادتها؛ ويلزم ذلك بقية العمر؛ فليس للجهاد آخر إلا الموت؛ قيل: صاح طوطي بحضرة سليمان؛ فقال: " تدرون ما يقول؟" ؛ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: " يقول: كل حي ميت؛ وكل جديد بال" ؛ وقال: " النسر يقول في صياحه: يا ابن آدم؛ اعمل ما شئت؛ آخرك الموت" ؛ (واعمل ما شئت) ؛ من خير؛ (فإنك مجزي به) ؛ بفتح الميم؛ وسكون الجيم؛ وكسر الزاي؛ وشد المثناة تحت؛ أي: مقضي عليك بما يقتضيه عملك؛ وبضم الميم؛ وفتح الزاي؛ منونا؛ أي: مكافأ عليه؛ ولما ذكر الموت والمجازاة؛ وخوف بما علم منه أن: من يعمل مثقال ذرة خيرا يره؛ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره؛ أردفه ببيان أعظم نافع من تلك الأهوال؛ فقال: (واعلم) ؛ بصيغة الأمر؛ إفادة لغير ما علم؛ للدلالة على أنه تعلم وعلم؛ لأن العلم لا يتم حتى يصل إلى الغير؛ فيجمع فضل العلم والتعليم؛ ذكره الحراني ؛ (أن شرف المؤمن) ؛ رفعته؛ قال الزمخشري : من المجاز: لفلان شرف؛ وهو علو المنزلة؛ (قيامه بالليل) ؛ أي: علاه ورفعته إحياء الليل بدوام التهجد فيه؛ والذكر؛ والتلاوة؛ وهذا بيان لشيء من العمل المشار إليه بقوله: " اعمل ما شئت" ؛ ولما كان الشرف والعز أخوين؛ استطرد ذكر ما يحصل به العز؛ فقال: (وعزه) ؛ قوته وعظمته وغلبته على غيره؛ (استغناؤه) ؛ اكتفاؤه بما قسم له؛ (عن الناس) ؛ أي: عما في أيديهم؛ ولهذا قال حاتم لأحمد - وقد سأله: ما السلامة من الدنيا وأهلها؟ - قال: أن تغفر لهم جهلهم؛ وتمنع جهلك عنهم؛ وتبذل لهم ما في يدك؛ وتكون مما في أيديهم آيسا؛ قال الغزالي: ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن؛ فهو ركيك العقل؛ ناقص الإيمان؛ ففي القناعة العز والحرية؛ ولذلك قيل: استغن عمن شئت؛ فأنت نظيره؛ واحتج إلى من شئت؛ فأنت أسيره؛ وأحسن إلى من شئت؛ فأنت أميره؛ وقال بعضهم: الفقر لباس الأحرار؛ والغنى بالله لباس الأبرار؛ و" القيام" : انتصاب القامة؛ ولما كانت هيئة الانتصاب أكمل هيئات من له القامة؛ وأحسنها؛ استعير ذلك للمحافظة على استعمال الإنسان نفسه في الصلاة ليلا؛ فمعنى قيام الليل: المحافظة على الصلاة فيه؛ وعدم تعطيله باستغراقه بالنوم؛ أو اللهو؛ قال الزمخشري : " قام على الأمر" ؛ دام؛ وثبت؛ وقد تضمن الحديث التنبيه على قصر الأمل؛ والتذكير بالموت؛ واغتنام العبادة؛ وعدم الاغترار بالاجتماع؛ والحث على التهجد؛ وبيان جلالة علم جبريل؛ وغير ذلك؛ قال الغزالي: جمعت هذه الكلمات حكم الأولين؛ والآخرين؛ وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر؛ إذ لو وقف على معانيها؛ وغلبت على قلبه غلبة يقين؛ استغرقته؛ وحالت بينه وبين النظر إلى الدنيا بالكلية؛ والتلذذ بشهواتها؛ وقد أوتي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم؛ وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة.

(الشيرازي؛ في) ؛ [ ص: 103 ] كتاب معرفة (الألقاب) ؛ والكنى؛ عن إسماعيل؛ عن زافر بن سليمان؛ عن محمد بن عيينة؛ عن أبي حازم؛ عن سهل بن سعد .

(ك)؛ في الرقائق؛ من طريق عيسى بن صبح؛ عن زافر؛ (هب)؛ من طريق محمد بن حميد؛ عن عيسى بن صبح؛ عن زافر؛ عن ابن عيينة ؛ عن أبي حازم؛ (عن سهل بن سعد ) ؛ ابن مالك الخزرجي الساعدي؛ قال الحاكم : صحيح؛ وأقره الذهبي في التلخيص؛ مع أن زافرا أورده هو وغيره في الضعفاء؛ ولهذا جزم الحافظ العراقي في المغني بضعف الحديث؛ قال: وجعله بعضهم من كلام سهل؛ ومراد القضاعي ؛ (هب)؛ من طريق أبي داود الطيالسي ؛ عن الحسن بن أبي جعفر ؛ عن أبي الزبير ؛ (عن جابر) ؛ ابن عبد الله ؛ (حل)؛ عن محمد بن عمر ؛ عن محمد بن الحسن ؛ وعلي بن الوليد؛ قالا: حدثنا علي بن حفص بن عمر ؛ عن الحسن بن الحسين بن زيد بن علي ؛ عن أبيه؛ عن علي بن الحسين ؛ عن الحسن؛ (عن علي) ؛ أمير المؤمنين ؛ وزاد في هذه الرواية؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أوجز لي جبريل في الخطبة" ؛ قال ابن حجر في أماليه: أخرجه الحاكم من طريق عيسى بن صبح؛ عن زافر؛ وصححه؛ والبيهقي ؛ من طريق ابن حميد؛ عن زافر؛ قال - أعني ابن حجر -: تفرد به بهذا الإسناد زافر؛ وما له طريق غيره؛ وهو صدوق؛ كثير الوهم؛ والراوي عنه فيه مقال؛ لكن توبع؛ قال: وقد اختلف فيه نظر حافظين؛ فسلكا طريقين متناقضين؛ فصححه الحاكم ؛ ووهاه ابن الجوزي ؛ والصواب أنه لا يحكم عليه بصحة؛ ولا وضع؛ ولو توبع زافر لكان حسنا؛ لكن جزم العراقي في الرد على الصنعاني؛ والمنذري؛ في ترغيبه؛ بحسنه.



الخدمات العلمية