الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6133 6498 - حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة". [مسلم: 2547، فتح: 11 \ 333].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 565 ] أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث حذيفة - رضي الله عنه -: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة". وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة.. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الجذر بفتح الجيم، وكسرها، وذال معجمة ساكنة أي: أصلها، والجذر: من جذر الحساب، وهو أصل كل شيء.

                                                                                                                                                                                                                              وحكى الأصمعي: الفتح، وكذا هو في روايتنا، وأبو عمرو الشيباني: (الكسر) كما حكاه في "الصحاح"، وعبارة أبي عبيد أنه الأصل من كل شيء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الأعرابي: الجذر: أصل حساب ونسب، وأصل شجرة، والجذر في شعر زهير بن أبي سلمى: قرن البقرة. وقال الداودي: يعني أنها في الأصل، وأول ما نزل في القلب، فمن ذلك النية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 566 ] قال: وقوله: ("ثم علموا من السنة") أي: (جذرهم) على ذلك ما جعل في قلوبهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة") يعني: تقبض من قوم ثم قوم (ثم قوم) شيئا بعد شيء، ووقتا بعد وقت، على قدر فساد الدين.

                                                                                                                                                                                                                              والأمانة الظاهر أن المراد بها: التكاليف التي كلف الله بها عباده، والعهد الذي أخذه عليهم. وعبارة ابن التين في الفتن: الأمانة، إنها كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من (المرء). قال تعالى: إنا عرضنا الأمانة [الأحزاب: 72]. قال ابن عباس: هي الفرائض التي على العباد. وقيل: هي ما أمروا به ونهوا عنه، وقيل: هي الطاعة. (ونقله الواحدي عن أكثر المفسرين، وقال صاحب "التحرير": الأمانة هنا هي المذكورة في الآية، وهي غير الإيمان، فإذا استمكنت في قلب العبد قام بأداء التكاليف).

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فيظل أثرها") أي: فيصير. وقال الداودي: يعني: يبقى ويقيم، وفي "الصحاح": (ظلت) أعمل كذا -بالكسر- إذا عملته بالنهار دون الليل، ومنه قوله تعالى: فظلتم تفكهون [الواقعة: 65].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 567 ] وقوله: ("مثل الوكت") هو بفتح الواو، وبعد الكاف الساكنة تاء (مثناة) فوق. قال أبو [المعاني] في "المنتهى": هو الأثر اليسير. وقيل: سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالف للون الذي كان قبله، يقال: البسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب وقد وكت. قال الهروي: والجمع: وكت، وقال صاحب "العين": الوكت شبه نكتة في العين وتدمع لونه، وعين موكوتة والوكت: سواد اللون، وعبارة أبي عبيد: أنه أثر الشيء اليسير منه.

                                                                                                                                                                                                                              وعبارة ابن التين: الوكتة كالنقطة في الشيء، يقال: في عينه وكتة. أي: أثر، ووكيت البسرة توكيتا من نقط الإرطاب، وقال الداودي: يعني الخطة الرفيعة.

                                                                                                                                                                                                                              و ("المجل"): بميم مفتوحة، ثم جيم ساكنة: أثر العمل في اليد، يعالج به الإنسان الشيء، حتى تغلظ جلودها. يقال منه: مجلت يده -بفتح الجيم، وكسرها- لغتان، وذكر الحربي، عن ابن الأعرابي: الرجل: النفط باليد ممتلئ ماء، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد واللحم ماء قيل: مجلت يده تمجل، ونفطت تنفط نفطا ونفطا. وما قيدناه به هو ما قال ابن دحية: كذا قيدناه، واختار أهل اللغة والنحو فتح الجيم مصدر مجلت يده تمجل مجلا بفتح الجيم في المصدر، (وحكاهما صاحب أيضا).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 568 ] قلت: ومجلت تمجل مجلا ومجولا، والجمع: مجل، مجال، (وأمجلها غيرها)، وهو أن يكون بين الجلد واللحم، كما سلف، وكذلك: المجلة، يقال: مجلت يده مجلا إذا انتفطت من العمل بفأس وما أشبهه. فخرج فيها نفخ يشبه البثر. قال ابن سيده: وكذلك الحافر إذا نكبته الحجارة ثم (قوي) فصلب، وفي الحديث: أن فاطمة شكت إلى علي - رضي الله عنهما - مجل يديها من الطحن.

                                                                                                                                                                                                                              قال الأصمعي: هو نفخ يشبه البثر من عمل. والجمر جمع: جمرة بسكون الميم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فنفط"): هو بكسر الفاء كعلم قال ابن فارس: النفط: قرح يخرج في اليد من العمل، ولم يقل: نفطت، (مع أن الرجل مؤنثة، إما يكون نفي إتباعا للفظ الرجل، وإما أن يكون إتباعا لمعناه وهو العضو).

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فتراه منتبرا") يعني: مرتفعا منتفطا، وأصل هذه اللفظة من الارتفاع، ومنه انتبر الأمير: إذا صعد على المنبر، ومنه سمي المنبر منبرا; لارتفاعه، والجرح إذا ورم، والنبر نوع من الذباب يلسع الإبل، فيرم مكان لسعته، ومنه سمي الهمز نبرا لكون الصوت على حال من الارتفاع لا يوجد في غير هذا الحرف وكل شيء ارتفع فقد نبر. قال

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 569 ] الطوسي: انتبر الجرح إذا ورم، ويقال: سمعت نبرات من كلامه أي: ارتفاعات من صوته. وقال أبو عبيد: منتبرا: منتفطا. ومنه حديث عمر: إياكم والتخلل بالقصب، فإن الفم ينتبر منه. ولما قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ما تهمز؟، قال: "إنا معشر قريش لا ننبر". والنبر: الهمز، ولم تكن قريش تهمز في كلامها. وصلى الكسائي مع المهدي; فهمز بالمدينة، فأنكر أهل المدينة همزه عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!

                                                                                                                                                                                                                              والمعنى: أن الأمانة لم يبق منها في قلوب الرجال إلا مثل هذه الآثار التي ضرب بها المثل، وقد ذهبت، وزال عن القلوب شيئا فشيئا، وزال (منها) نورها، وخلفه ظلمة كالكوكب، إذا زال منه شيء (آخر) صار كالمجل، وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ترجم البخاري على هذا الحديث في كتاب الفتن كما ستعلمه باب: إذا بقي في حثالة من الناس. وكأن مراده أن فاعل هذا هو.

                                                                                                                                                                                                                              والحثالة مذكورة من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. رواه ابن وهب، عن يعقوب بن (عبد الله بن) عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب، عنه، وليس هو على شرطه،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 570 ] وهي: سفلة الناس، وأصلها عند العرب: ما سقط من قشور التمر والشعير وهي الحفالة بالفاء، وضم الحاء كالأول، (والحسافة) أيضا بالسين المهملة والفاء كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وما أبالي أيكم بايعت). المراد بالمبايعة: البيع والشراء المعروفان، ومعناه: إني كنت أعلم أن الأمانة لم ترفع، وأن بالناس وفاء بالعهود، فكنت أقدم على مبايعة من اتفق (غير باحث عن حاله) وثوقا بالناس وبأماناتهم، فإنه إن كان مسلما فدينه وأمانته تحمله على أداء الأمانة، وتمنعه من الخيانة، وإن كان كافرا فساعيه وهو الوالي عليه يقوم بالأمانة ويستخرج ما خفي منه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة فما بقي لي وثوق بمن أبايعه، فما أبايع إلا فلانا وفلانا -يعني: أفرادا من الناس أعرفهم وأثق بهم- وقال ابن التين (وغيره) : تأوله بعض الناس على بيعة الخلافة، وأكثرهم على خلاف ذلك، وإنما أراد البيع والشراء كما أسلفناه فمعناه قلة الأمانة في الناس، واحتجوا بقوله: (لئن كان نصرانيا رده علي ساعيه). وكيف يبايع النصراني، وكذا قال أبو عبيد: حمله كثير من الناس على بيعة الخلافة وهو خطأ في التأويل، وكيف يكون على بيعة الخلافة، وهو يقول: لئن كان يهوديا أو نصرانيا رده على ساعيه. فهو يبايع على الخلافة اليهودي والنصراني؟! ومع هذا أنه لم يكن يجوز أن يبايع كل واحد فيجعله خليفة، وهو لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يتأول هذا عليه مع مذهبه فيه؟!

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 571 ] والمراد بالساعي: الوالي الذي يلي عليه ينصفني منه إن لم يكن له إسلام، وكل من ولي على قوم، فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال هذا في ولاة الصدقة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشاعر:

                                                                                                                                                                                                                              سعى عقال فلم يترك لنا سيدا

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ما أظرفه"). الظرف: البراءة وذكاء القلب، تقول منه: ظرف الرجل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ما أجلده")، الجلد: الصلابة، تقول منه: جلد الرجل بالضم فهو جلد، وجليد.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وحذيفة من أعلام النبوة; لأنه - عليه السلام - ذكر فيهما فساد أديان الناس، وتغير أماناتهم، وقد ظهر كثير من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة")، هو كلام مجمل أخبر الأعرابي السائل رسول الله شرحه له، فقال له: كيف إضاعتها؟ فأجابه بجواب عام، دخل فيه تضييع الأمانة وما كان في معناها مما لا يجري على طريق الحق كاتخاذ العلماء الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور، وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر ابن أبي شيبة من حديث المقبري، عن أبي هريرة

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 572 ] مرفوعا: "سيأتي على الناس زمان سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: وقد رأيت أكثر هذه العلامات وما بقي منها فغير بعيد، (ورواه أحمد في مسنده بلفظ: "إنها ستأتي على الناس زمان سنون خداعة". فذكره بمثله، وفي آخره، قيل: وما الرويبضة؟ (قال) : "السفيه يتكلم بأمر العامة").

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال: سمعت شداد بن معقل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى يونس، عن الزهري، عن الصنابحي، عن حذيفة قال: لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 573 ] ورويناه مرفوعا من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

                                                                                                                                                                                                                              وللدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أول شيء ينزع من أمتي علم الفرائض". ولا تعارض لأنها من الأعمال الظاهرة، وما سلف من الأعمال الباطنة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة"). يريد - عليه السلام - أن الناس كثير والمرضي منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة في آخر الزمان، ولذلك ذكره البخاري هنا، ولم يرد به - عليه السلام - زمن أصحابه وتابعيهم; لأنه قد شهد لهم بالفضل، فقال: "خير القرون قرني". الحديث. فهؤلاء أراد - عليه السلام - بقوله: "الناس كإبل بمائة"؟!

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: قيل يحتمل أن يريد كل الناس، فلا يكون مؤمن إلا في مائة أو أكثر، أو يريد الصلاح في المسلمين، فيكون الكلام عليهم، والراحلة: الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول، ويقال الراحلة: المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 574 ] وقيل: معنى الحديث: أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها لشريف على مشروف، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة وهي الذلول التي ترحل وتركب، جاءت فاعلة بمعنى مفعولة أي: مرحولة، يريد أنها كلها حمولة تصلح للحمل، ولا تصلح للركوب، والعرب تقول للمائة من الإبل: إبل و (لا) يقال: لفلان إبل، أي: مائة من الإبل، وإبلال إذا كان له مائتان.

                                                                                                                                                                                                                              ووجه آخر:

                                                                                                                                                                                                                              أن أكثر الناس أهل جهل ونقص فلا يستكثر من صحبتهم، ولا يؤاخي منهم إلا أهل الفضل، وعددهم قليل بمنزلة الراحلة في الإبل المجهولة، وذلك قوله تعالى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الأعراف: 187]، وقوله: ولكن أكثرهم يجهلون [الأنعام: 111].




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية