الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6286 [ ص: 302 ] 14 - باب: قول الله -عز وجل-: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم [البقرة: 225]

                                                                                                                                                                                                                              6663 - حدثني محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، عن هشام قال: أخبرني أبي، عن عائشة - رضي الله عنها -: لا يؤاخذكم الله باللغو [البقرة:225] قال: قالت: أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله . [انظر: 4613 - فتح: 11 \ 547]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ساق فيه حديث عائشة - رضي الله عنها -: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم [البقرة: 225] قالت: نزلت في قول الرجل: لا والله، وبلى والله .

                                                                                                                                                                                                                              هذا أسلفنا الكلام عليه قريبا في التفسير في الآية المذكورة وأوضحنا هناك ولا بأس بإعادتها لبعد مكانها بزيادات، فنقول: اختلف العلماء في لغو اليمين ، فذهب إلى قول عائشة - رضي الله عنها - أنه: لا والله، وبلى والله مما لا يعتقده قلب الحالف ولا يقصده: ابن عمر ، وكان يسمع بعض ولده يحلف عشرة أيمان: لا والله، وبلى والله، فلا يأمره بشيء، وابن عباس - رضي الله عنهما - في رواية، وروي ذلك عن القاسم وعطاء وعكرمة والحكم والشعبي في رواية ابن عون عنه، وطاوس والحسن والنخعي ، وروى حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال: لا والله، وبلى والله: لغة من لغات العرب، لا يراد بها اليمين، وهي من صلة الكلام.

                                                                                                                                                                                                                              وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة قال: اللغو: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فيما يظن أنه صادق على الماضي. وعند الشافعي : سواء كانت في الماضي أو المستقبل.

                                                                                                                                                                                                                              وفيها قول ثان: روي عن ابن عباس أنه هو أن يحلف الرجل على الشيء، يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم وجد على غير ذلك، ولما ذكر [ ص: 303 ] ابن عبد البر كلام أبي قلابة قال: وإلى هذا ذهب الشافعي والأوزاعي وابن حي ، قال: وذكر الشافعي أن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود عليه، وهو معنى ما قالته عائشة - رضي الله عنها - وروي أيضا عن عائشة ، ذكره ابن وهب ، عن عمر بن قيس ، عن عطاء ، عنها.

                                                                                                                                                                                                                              وروى مثله أيضا إسماعيل القاضي والنخعي والحسن وقتادة ، وهو قول ربيعة ومكحول ومالك والليث والأوزاعي ، قال مالك : وأحسن ما سمعت في اللغو هذا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وهو قول أحمد وإسحاق أيضا ونقل غيره عن أحمد أنه قال: هو الوجهان جميعا. وجعل مالك لا والله، وبلى والله موضوعة لليمين، ورأى فيها الكفارة إلا ألا يراد بها اليمين، وجعلها الشافعي ومن لم ير فيها الكراهة موضوعة لغير اليمين، إلا أن يراد بها اليمين.

                                                                                                                                                                                                                              ورأى الشافعي في اللغو الذي عند مالك الكفارة; لأن حقيقة اللغو عنده: ما لم يقصد له الحالف، لكن سبق على لسانه، كأنه يريد أن يتكلم بشيء، فيبدر منه اليمين، كذا ذكره ابن بطال ، وليس كما ذكر من حقيقة ذلك عنده، بل مقتضى مذهبه مذهب مالك أيضا، وأنه لا حنث عليه في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي إسماعيل : وأعلى الرواية في ذلك وأمثلها في تأويل الآية إنما جاء على قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وهو لا يريد اليمين، فلم يكن عليه يمين; لأنه لم ينوها، وقال - عليه السلام -: "إنما الأعمال بالنيات" .

                                                                                                                                                                                                                              وما جرى على لسان الرجل من قول لم يقصد له ولا نواه، سقطت [ ص: 304 ] عنه الكفارة؛ إذ جعل بمنزلة من لم يحلف. ألا ترى قول أبي قلابة في قوله: لا والله، وبلى والله. أنها في لغة العرب ليست بيمين، وحكي أقوال أخر في لغو اليمين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: رواية طاوس ، عن ابن عباس قال: اللغو أن يحلف الرجل وهو غضبان .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: قال الشعبي : إنه كل يمين على معصية فليست لها كفارة، ثم قال: لم يكفر للشيطان؟!

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: قول سعيد بن جبير : إنه تحريم الحلال ، كقول الرجل: هذا الطعام علي حرام. فأكله فلا كفارة عليه، وحكى أبو عمر هذا، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ثم قال: وروي عن سعيد بن جبير ، رواه عنه أبو بشر وداود بن أبي هند أيضا. قال القاضي إسماعيل : وقول سعيد بن جبير ليس على مجرى ما ذهب إليه أهل العلم، فلا حجة له، وإنما يرجع معنى قوله إلى معنى الحديث الذي فيه: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" لأن من حلف أن لا يأكل طعاما، أو لا يدخل على أخيه، فقد حرم على نفسه ما أحل الله له. ثم قال غيره: وأما قول ابن عباس : اللغو يمين الغضبان . وإنما يشبه الغاضب لمن لم يقصد إلى اليمين ولا أراده، وكأنه غلبه الغضب، فهو كمن لم ينو اليمين، فلا كفارة عليه، وهذا معنى ضعيف; لأن جمهور الفقهاء على أن الغاضب عندهم قاصد إلى أفعاله، والغضب يزيد تأكيدا وقوة في قصده، وسيأتي مذاهب العلماء فيمن حلف على معصية أو نذرها قريبا في (باب: النذر فيما لا يملك) "ولا نذر في معصية".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 305 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة - رضي الله عنها - لفظ "الموطأ" فيه: لا والله، وبلى والله ، وفي "الاستذكار" لابن عبد البر : قالت عائشة - رضي الله عنها -: اللغو الذي ذكره الله . قال أبو عمر : تفرد يحيى بن سعيد بذكر السبب في نزول الآية الكريمة، ولم يذكره أحد غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وفي كتاب ابن أبي عاصم : ثنا كثير بن عبيد ، أنا محمد بن حرب ، ثنا الزبيدي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت: لغو اليمين ما كان في المراء أو الهزل أو المراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، وإنما الكفارة في كل يمين حلفت فيها على حد من الأمر في غضب أو غيره: لتفعلن أو لتتركن، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة، قال الله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم [البقرة: 225].

                                                                                                                                                                                                                              ولأبي داود عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو قول الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله" قال عبد الحق : رواه جماعة عن عائشة - رضي الله عنها - قولها.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عنها قالت في الآية: هم القوم يتدارءون، يقول أحدهم: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، لا تعقد عليه قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 306 ] وروى ابن وهب عن يونس ، عن ابن شهاب أن عروة حدثه، عن عائشة قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء والقول والمزاحة، والحديث الذي لا تعقد عليه القلوب .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : وروي مثل قول مالك ، عن عائشة ، من طريق لا يثبت ذكره ابن وهب ، عن عمر بن قيس المتروك، عن عطاء ، عنها ولم يتابع عمر أيضا على ذلك، فقد خالفه ابن جريج ، وغيره، عن عطاء ، فرواه على حسب ما رواه مالك أنه قول الرجل: لا والله، وبلى والله. ويقولون: إن عطاء لم يسمع من عائشة غير هذا الحديث في حين مسيره إليها مع عبيد بن عمير .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن وهب أيضا، عن الثقة عنده، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها، مثل رواية عمر بن قيس ، عن عطاء ، وهذا لا يصح; لأن رواية ابن وهب هذه عن الثقة عنده تعارضها رواية ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة، عنها قالت: أيمان اللغو فيما كان في المراء، والقول الذي لا يعقد عليه القلب . وهذا معنى رواية مالك عن هشام ، عن أبيه، عنها، دون ما ذهب إليه في معنى لغو اليمين، ويروى مثل قول مالك أيضا في اللغو عن الحسن البصري ، ورواه زرارة بن أوفى ، وقتادة ، ومجاهد . ورواية عن الشعبي رواها عمرو بن دينار ، ورواية أيضا عن النخعي ، رواها عن مغيرة ومنصور .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو محمد بن حزم : لغو اليمين لا كفارة فيه ولا إثم، وعن ابن عباس ولا يصح عنه من طريق الكلبي : لغو اليمين هو قول الرجل: هذا والله فلان، وليس بفلان.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 307 ] قال: وقد تناقض في هذا المالكيون والحنفيون ، فأسقطوا الكفارة هنا وأوجبوها على من فعل ما حلف عليه ناسيا أو مكرها، ولا فرق بينهما، وأيضا فإنهم رأوا اللغو في اليمين بالله، ولم يروه في اليمين بغيره، كالمشي إلى مكة والطلاق وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ومن حلف على ما لا يدري أهو كذلك أم لا، وعلى ما قد يكون ولا يكون، كمن حلف: لينزلن المطر غدا. فنزل أو لم ينزل، فلا كفارة عليه في شيء من ذلك، وقد صح أن عمر يحلف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ابن صياد هو الدجال ، ولم يأمره بكفارة. وقال مالك : عليه الكفارة، كان ما حلف عليه أو لم يكن.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية