الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6507 [ ص: 451 ] 24 - باب: العاقلة

                                                                                                                                                                                                                              6903 - حدثنا صدقة بن الفضل ، أخبرنا ابن عيينة ، حدثنا مطرف قال : سمعت الشعبي قال : سمعت أبا جحيفة قال : سألت عليا - رضي الله عنه - : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ وقال مرة : ما ليس عند الناس . فقال : والذي فلق الحب وبرأ النسمة ، ما عندنا إلا ما في القرآن ، إلا فهما يعطى رجل في كتابه ، وما في الصحيفة . قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر . [ انظر : 111 - مسلم : 1370 - فتح 12 \ 246 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي جحيفة الآتي بعد في باب لا يقتل المسلم بالكافر ، وفيه : قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر . وذكره في البابين سواء سندا ومتنا . وقل أن يتفق له ذلك ، نعم ذكره في العلم عن شيخ آخر له كما أسلفنا هناك .

                                                                                                                                                                                                                              وقام الإجماع على القول بالعقل في الخطأ لثبوت ذلك عن الشارع ، وقد روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في العقول :" في النفس مائة من الإبل . ." إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                              أرسله مالك . وزاد فيه معمر : عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده . وإن كان جده لم يدرك

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 452 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما الذي أدركه عمرو بن حزم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي إجماع ( الصحابة ) على القول به ما يغني عن الإسناد فيه .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء في هذا الحديث في الإبهام وفي الأسنان على ما تقدم قبل هذا ، وأجمعوا على ما في سائر الحديث من الديات . قال : وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفس مائة من الإبل ، وقومها عمر بالذهب والورق فجعل على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك : أهل الذهب أهل الشام ومصر ، وأهل العراق أهل الورق ، كان صرفهم ذلك الوقت الدينار باثني عشر درهما ، وكانت قيمة الإبل ألف دينار ، وإنما تقوم الأشياء بالذهب والورق خاصة ، على ما صنع عمر ، هذا قول مالك والليث والكوفيين ، وأحد قولي الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو يوسف ومحمد : يؤخذ في الدية أيضا البقر والخيل والشاء ، وروي عن عمر أيضا ، وبه قال الفقهاء السبعة المدنيون .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك : لا يؤخذ في الدية بقر ولا غنم ولا خيل إلا أن يتراضوا بذلك فيجوز ، ولو جاز أن تقوم بالشاء والبقر والخيل لوجب تقويمها على أهل الخيل بالخيل ( وعلى أهل الطعام بالطعام ) ، وهذا لا يقوله أحد .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 453 ] وأجمعوا أن الدية تقطع في ثلاث سنين للتخفيف على العاقلة ليجمعوها في هذه المدة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في الأصابع على ما سلف ، وأما الأسنان فقضى عمر في الأضراس ببعير بعير ، وقضى معاوية بخمس خمس ، وبه قال مالك .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المسيب : ( والدية ) تنقص خمسا في قضاء عمر ، وتزيد ثلاثة أخماس في قضاء معاوية ، فلو كنت أنا لجعلت الأضراس بعيرين بعيرين فتلك دية .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف لم سميت عاقلة ؟

                                                                                                                                                                                                                              فقيل : هو من عقل يعقل أي يحمل ، فمعناه : أنها تحمل عن القاتل ، وقيل : هو من عقل يعقل أي منع يمنع ، ودفع يدفع ، وذلك أنه كان في الجاهلية كل من قتل التجأ إلى قومه ؛ لأنه يطلب ليقتل فيمنعون منه القتل ، فسميت عاقلة . أي : مانعة .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : سميت عاقلة من عقل النفس ؛ لأن عاقلة القاتل يعقلون الإبل التي تجب عليهم ، فسموا عاقلة لعقلهم الإبل في ذلك الموضع . ثم كثر استعمالهم لهذا الحرف حتى صار يقال : عقلته إذا أعطيت ديته ، وإن كانت دنانير أو دراهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 454 ] وقال ابن فارس : عقلت القتيل إذا أعطيت ديته ، وعقلت عنه إذا لزمته دية فأديتها عنه . قال : ذكر ذلك عن القتبي ، وقال عن الأصمعي : كلمت أبا يوسف القاضي في ذلك بمحضر الرشيد فلم يفرق بين عقلته وأعقلت عنه حتى فهمته .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قول أبي جحيفة : سألت عليا - رضي الله عنه - : هل عندكم شيء بما ليس في القرآن ؟

                                                                                                                                                                                                                              إنما سأله لأجل دعوى الروافض أن عندهم كتاب الحصر ، فيه علم كل شيء ، وأداهم ذلك إلى أن جعل بعضهم عليا نبيا وبعضهم إلها ، نبه عليه الداودي .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ( فلق الحبة ) : أخرج منها النبات ، والنخل من النوى .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( وبرأ النسمة ) النفس ، وكل دابة فيها روح فهي نسمة ، وكان علي إذا اجتهد في اليمين حلف بهذا . وقيل : النسمة : الإنسان ، ( ومعنى ) برأ : خلق .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( إلا فهما يعطى رجل في كتابه ) يعني ما يفهم من فحوى كلامه ، ويستدرك من باطن معانيه التي هي غير ظاهرها ، وذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يتوصل إليها من طريق الفهم ( والتفهم ) .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( العقل ) يريد ما تحمله العاقلة وقد ثبتت الأخبار بأنه - عليه السلام -

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 455 ] قضى بالعقل على العاقلة . قيل : ولا يختلف المسلمون أن دية الخطأ المحض على العاقلة ، إلا ما روي عن الأصم : أن الديات كلها في مال القاتل ، وذكر أنه مذهب الخوارج ، وظاهر هذا يخالف قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : 15 ] ولكنه توقيف من جهة السنة أريد به معونة القاتل من غير إجحاف بالعصبة المعينين ، واختلف في مقدار ما يعنون به ، فعندنا يضرب على الغني نصف دينار ، وعلى المتوسط ربع في كل سنة .

                                                                                                                                                                                                                              وعن مالك : أكثر ما يؤخذ من الواحد نصف دينار ، ورواه ابن القاسم . وروي عنه : كانوا يأخذون من الدية درهما ونصفا من المائة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القاسم : روي عنه في السنة أكثر من دينار وقيل : أكثر من ربع . وفي " الزاهي " : كان يجعل عليهم فيما مضى دينار أو نصفه من كل مائة ، يخرج له من عطائه . وقيل : ثلاثة دراهم في العام . وقيل : ما يطيقون . وقيل : ما اصطلحوا عليه . واختلف في الذي تحمله العاقلة . فقال مالك : الثلث فأعلى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : عقل الموضحة فأعلى . وذكر مغيرة أن العاقلة تحمل الثلث إجماعا . وذكر ابن القصار ، عن الزهري أنها لا تحمل الثلث وتحمل ما زاد . وقال الشافعي في القديم : ( تحمل ) ما دون الدية . وفي الجديد : تحمل ما قل وما كثر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 456 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قام الإجماع على أنها تؤدى في ثلاث سنين ، واختلفوا هل يؤخذ فيها البقر والشاء والخيل ؟ فمنعه مالك وغيره ، وأجاز ذلك أبو يوسف . وقد أسلفناه أولا واضحا .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( وفكاك الأسير ) هذا واجب على جميع المسلمين ، وقد اختلف هل يفك من الزكاة ؟ واحتج من منعه بأنه يجب على سائر الناس ، فلا يجوز أن يؤدى من مال الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( وأن لا يقتل مسلم بكافر ) هذا قول الجماعة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يقتل المسلم بالذمي ولا يقتل بالمستأمن ، وبه قال النخعي والشعبي . وقد أسلفنا المسألة مبسوطة جدا فراجعها .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية