الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6544 6943 - حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن إسماعيل ، حدثنا قيس ، عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ . فقال : "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " . [انظر : 3612 - فتح: 12 \ 315 ] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أنس - رضي الله عنه - : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . . " . الحديث سلف في الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث إسماعيل : سمعت قيسا ، قال : سمعت سعيد بن زيد - رضي الله عنه - : لقد رأيتني وإن عمر موثقي على الإسلام ، ولو انقض أحد مما فعلتم بعثمان كان محقوقا أن ينقض . وحديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - السالف بطوله في باب : علامات النبوة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 26 ] وقام الإجماع أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة . واختلفوا فيمن أكره على (غير ) الفعل من فعل ما لا يحل له ، فقال أصحاب مالك : الأخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة ، ذكره ابن حبيب وسحنون ، وذكره ابن سحنون عن أهل العراق : أنه إذا تهدد بقتل أو بقطع أو بضرب يخاف منه التلف حتى يشرب الخمر أو يأكل الخنزير فذلك له ، فإن لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما ، وهو كالمضطر إلى أكل الميتة أو شرب الخمر غير باغ ولا عاد فإن خاف على نفسه الموت فلم يأكل ولم يشرب أثم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مسروق : من اضطر إلى شيء مما حرمه الله عليه ، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار . قالوا : ولا يشبه هذا الكفر وقتل المسلم ؛ لأن هذا فيه رخصة ، وتركه أفضل ، ولم يجعل في الضرورة حلالا .

                                                                                                                                                                                                                              قال سحنون : إذا لم يشرب الخمر ولا أكل الخنزير حتى قتل كان أعظم لأجره كالكفر ؛ لأن الله أباح له الكفر بضرورة الإكراه ، وأباح له الميتة والدم بضرورة الحاجة إليهما ، وأجمعنا أن له ترك الرخصة في قول الكفر فكذلك يلزم مخالفنا أن يقول في ترك الرخصة في الميتة ولحم الخنزير ، ولا يكون معينا على نفسه ، وقد تناقض

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 27 ] الكوفيون في هذا فقالوا كقولنا في المكره بوعيد بقطع عضو ، أو قتل ، على أن يأخذ مال فلان فيدفعه إلى فلان : أنه في سعة من ذلك ؛ لأنه كالمضطر ، ويضمن الآمر ولا ضمان على المأمور ، وإن أبى أن يأخذ حتى قتله كان عندنا في سعة ، فيقال لهم : هذا مال مسلم قد أحللتموه بالإكراه حتى يقتل .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف أصحابنا في وجوب التلفظ على وجهين أصحهما : لا يجب ، والثبات أفضل .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال : وحديث خباب حجة لأصحاب مالك ؛ لوصفه - عليه السلام - عن الأمم السالفة من كان يمشط لحمه بأمشاط الحديد وينشر بالمناشير بالشدة في دينه والصبر على المكروه في ذات الله ولم يكفروا في الظاهر ويبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عنهم ، فمدحهم - عليه السلام - بذلك ، وكذا حديث أنس - رضي الله عنه - سوى فيه الشارع بين كراهة المؤمن الكفر وكراهيته لدخول النار ، وإذا كان هذا حقيقة الإيمان فلا محالة أن الضرب والهوان والقتل عند المؤمن أسهل من دخوله النار ، فينبغي أن يكون أسهل من الكفر إن اختار الأخذ بالشدة على نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ابن التين فقال : هكذا ذكر بعضهم وما ظهر لي فيه حجة ؛ لأن العلماء متفقون على اختيار القتل في الكفر ، وإنما يكون هذا حجة على من يقول : إن اختار الكفر أو الارتداد في حديث أنس - رضي الله عنه - ، وأن يكره أن يعود في الكفر .

                                                                                                                                                                                                                              وقال في حديث خباب : "فما يصده ذلك عن دينه" والكفر قد اتفقوا على اجتناب القتل فيه فيكون حجة ، وتبويب البخاري يشعر بهذا ؛ لقوله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 28 ] على الكفر ، وقال قبل ذلك أحاديث الباب الثلاثة حجة لأصحاب مالك فيما ذكره .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقد اعترض هذا قوم بقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [النساء : 29 ] ولا حجة لهم فيه في الآية ؛ لقوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما [النساء : 30 ] ، وهما محرمان ، وليس من أهلك نفسه في الطاعة بعاد ولا ظالم ، ولو كان كما قالوا لما جاز لأحد أن يتقحم المهالك في الجهاد ، وقد افترض على كل مسلم مقارعة رجلين من الكفار ومبارزتهما ، وهذا من أبين الهلكات والضرر ومن فر من اثنين فقد أكبر المعصية وتعرض لغضب الله .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقول خباب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تدعو الله أن يكفينا ؟ يعني : عدوان الكفار عليهم بمكة قبل هجرتهم وصبرهم (وإبقائهم ) بالحديد .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه من الفقه : أنه - عليه السلام - لم يترك الدعاء في ذلك على أن الله قد أمرهم بالدعاء أمرا عاما بقوله : ادعوني أستجب لكم [غافر : 60 ] وبقوله : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا [الأنعام : 43 ] (إلا ) لأنه - عليه السلام - علم من الله تعالى أنه قد سبق في قدره وعلمه أنه يجري عليهم ما جرى من البلوى والمحن ؛ ليؤجروا عليها على ما سلفت عادته تعالى في سائر أتباع الأنبياء من الصبر والشدة في ذات الله ثم يعقبهم (بالصبر ) [ ص: 29 ] والتأييد والظفر وجزيل الأجر ، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهم ؛ لأنهم لا يعلمون الغيب فيها ، والدعاء من أفضل العبادة ولا يخلو الداعي من إحدى الثلاث التي وعد الشارع بها .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : علامات النبوة ، وذلك خروج ما قال - عليه السلام - من تمام الدين وانتشار الأمر وإنجاز الوعد من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقول سعيد : ( وإن عمر موثقي على الإسلام ) كان ذلك قبل أن يسلم أربعة ، وكان سعيد ابن عمه وزوج أخته ، وحكاية عمر في دخوله عليهم وسماعه القراءة وشج سعيد واغتساله ، وإسلامه مشهور .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في حديث خباب - رضي الله عنه - : ( وهو متوسد ببردة ) . قال الداودي : هي المئزر ، وإنما كان الرداء . وقال الجوهري : إنها كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الأعراب ، والجمع : برد ، والبرد جمع برد بغير هاء على وزن فعل ، وجمعه برود ، وأبراد ، والمئشار مهموز من أشرت الخشبة ، (قاله الجوهري ) ، ووشرت بالمنشار غير مهموز لغة من أشرت .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية