الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6643 7050 ، 7051 - حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أنا فرطكم على الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا ، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم " .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا ، فقال : هكذا سمعت سهلا ؟ فقلت : نعم . قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه : قال : "إنهم مني ، فيقال إنك لا تدري ما بدلوا بعدك فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي " . [انظر : 6583 ، 6584 - مسلم : 2290 - فتح: 13 \ 3 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر أحمد في تفسيره -فيما عزاه إليه ابن الجوزي في "حدائقه " -

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 275 ] حدثنا أسود ، ثنا جرير : سمعت الحسن قال : قال الزبير بن العوام : نزلت هذه الآية ونحن متوافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلنا نقول : ما هذه الفتنة ، وما نشعر أنها تقع حيث وقعت ، وعنه أنه قال يوم الجمل لما لقي ما لقي : ما توهمت أن هذه الآية نزلت فينا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - اليوم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الضحاك : هي في أصحاب محمد خاصة . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا منكرا بين ظهورهم وأنذرهم بالعذاب .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : إنها تعم الظالم وغيره . وقال المبرد : إنها نهي بعد نهي لأمر الفتنة ، والمعنى في النهي للظالمين أن لا تقربوا الظلم .

                                                                                                                                                                                                                              وحكى سيبويه : لا أرينك ها هنا . أي : لا تكن ها هنا ، فإنه من كان ها هنا رأيته . والشيخ أبو إسحاق يذهب إلى أن معناه الخبر ، وجاز دخول النون في الخبر ؛ لأن فيه قوة الجزء . وقال علي بن سليمان : هو دعاء .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق البخاري في الباب ثلاثة أحاديث :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : حديث أسماء - رضي الله عنها - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : "أنا على حوضي أنتظر من يرد علي ، فيؤخذ بناس من دوني فأقول : أمتي . فيقال : إنك لا تدري ، مشوا على القهقرى " . قال ابن أبي مليكة : اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 276 ] ثانيها : حديث أبي وائل ، عن عبد الله - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أنا فرطكم على الحوض ، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأتناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : يا رب ، أصحابي . فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك " .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : حديث أبي حازم قال : سمعت سهل بن سعد - رضي الله عنه - : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "أنا فرطكم على الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ (بعده ) أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم " .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا ، فقال : هكذا سمعت سهلا ؟ فقلت : نعم . قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه : قال : "إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما بدلوا بعدك . فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي " .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              حوضه - صلى الله عليه وسلم - معروف ، وماؤه أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، تربته المسك وجانباه قباب اللؤلؤ .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ("أنتظر من يرد علي " ) . أي : من يحضرني ليشرب .

                                                                                                                                                                                                                              و ("القهقرى " ) مقصور ، قال الجوهري : القهقرى : الرجوع إلى الخلف فإذا قلت : رجعت القهقرى فكأنك قلت : رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم ؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأزهري : معنى الحديث الارتداد عما كانوا عليه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 277 ] وقوله : ("أنا فرطكم " ) هو بفتح الراء ، أي : أتقدمكم ، وهو من يتقدم الوارد ، فيهيئ لهم الإرشاء والدلاء ، وعدد الحياض ، ويسقي لهم ، وهو فعل بمعنى فاعل ، كتبع بمعنى تابع ؛ يقال : رجل فرط ، ومنه الدعاء للطفل الميت : اجعله (لنا ) فرطا . أي : أجرا يتقدمنا حتى نرد عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("أهويت لأتناولهم " ) أي : أومأت .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("اختلجوا " ) . يقال : خلجه واختلجه إذا جذبه وانتزعه ،

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب "العين " : خلجت الشيء واختلجته : جذبته .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ("لم يظمأ " ) لم يعطش ، وسحقا : بعدا .

                                                                                                                                                                                                                              و ("السحيق " ) البعيد ، ومنه قوله تعالى : فسحقا لأصحاب السعير [الملك : 11 ] ومعنى ذلك : الدعاء على من غير وبدل ، كقوله : أبعده الله .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : وليس هذا بما يحتم به للمختلجين بدخول النار ؛ لأنه قد يحتمل أن يختلجوا وقتا فيلحقهم من هول ذلك (اليوم ) وشدته ما شاء الله ، ثم يتلاقاهم الله بما شاء من رحمته ، ولا يدل قوله : "سحقا سحقا " أنه لا يشفع لهم بعد ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد يلقي لهم ذلك في قلبه وقتا ليعاقبهم بما شاء إلى وقت يشاء ، ثم يعطف قلبه عليهم ؛ فيشفع لهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء في الحديث : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " . قلت :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 278 ] ما عدا الشرك . وقد قال بعض السلف : فالذين يعرفهم ويحال بينه وبينهم إنهم هم المرتدون ، وقد أسلفناه عن الأزهري أيضا ، واستدل على ذلك بقوله : "يا رب أصحابي فيقال : ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى " . كما سلف في باب : الحوض ، في آخر الرقاق .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              كان سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من الفتن ومن شرها ، ويتخوف من وقوعها ؛ لأنها تذهب بالدين وتتلفه ، وفي الآية إرشاد إلى أن الفتنة إذا عمت هلك الكل ، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر ، وقد سألت زينب - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . عن هذا المعنى فقالت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث " . وسيأتي قريبا ، وهو بفتح الخاء المعجمة ثم باء موحدة ثم مثلثة ، ونهلك -بكسر اللام وحكي فتحها - وفسر العلماء الخبث بأولاد الزنا ، وزعم ابن قتيبة : أنه الفسوق والفجور ، والعرب تدعو الزنا خبثا وخبثة . وفي الحديث : أن رجلا وجد مع امرأة يخبث بها . أي : يزني . قال تعالى : الخبيثات للخبيثين [النور : 26 ] فإذا ظهرت المعاصي ولم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها ، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك إلا أن الهلاك [ ص: 279 ] طهارة للمؤمنين ونقمة على الفاسقين ، وبهذا قال السلف . وروى ابن وهب عن مالك أنه قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها .

                                                                                                                                                                                                                              واحتج بصنع أبي الدرداء إلى خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا وهو من الكبائر وأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها . فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا لا مثلا بمثل ؛ فقال معاوية : ما أرى بمثل هذا بأسا ؛ فقال أبو الدرداء : فمن يعذرني من معاوية ؟ أنا أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وأما أحاديث (هذا ) الباب في ذكر من يعرفهم من أمته ويحال بينهم وبينه لما أحدثوا بعده ، فذلك كل حدث في الدين لا يرضاه الله من خلاف جماعة المسلمين وجميع أهل البدع كلهم ، فهم مبدلون محدثون ، وكذلك أهل الظلم والجور وخلاف الحق وأهله ، كلهم محدث مبدل . ليس في الإسلام داخل في معنى هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              في هذه الأحاديث الإيمان بحوضه - عليه السلام - على ما ذهب إليه أهل السنة .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية