الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6671 7082 - حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به " . [انظر : 3601 - مسلم : 2886 - فتح: 13 \ 30 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به " . (وفي لفظ "من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به " ) .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              زاد الإسماعيلي : "والنائم فيها خير من اليقظان ، واليقظان فيها خير من القاعد " ، ولمسلم " والنائم فيها خير من اليقظان " ، وفي حديث أبي [ ص: 320 ] بكرة "ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي إليها ، فإن أنزلت أو وقعت " ، وللبزار : "ستكون فتن ، ثم تكون فتن " بزيادة : "والمضطجع خير من القاعد فيها " قال : هذا الحديث لا نعلم (يروى ) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه ، ولم يروه عن مسلم بن أبي بكرة إلا عثمان الشحام ، وقد روى عنه غير واحد ، ولم يسندوه عنه .

                                                                                                                                                                                                                              ولأبي داود : "المضطجع فيها خير من الجالس ، والجالس خير من القائم " . وعن ابن مسعود : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . فذكر بعض حديث أبي بكرة ، وعن خريم بن فاتك الأسدي (رفعه ) ، كما حدث ابن مسعود ، وعن أبي موسى "إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم ؛ القاعد فيها خير من القائم والماشي فيها خير من الساعي " . وعند ابن ماجه " والقائم فيها خير من الماشي " ، وللترمذي مثله بزيادة ما في الذي قبله من حديث سعد بن أبي وقاص . ثم قال : حسن .

                                                                                                                                                                                                                              وروينا من حديث إلى المخلص خرشة بن الحر المحاربي مرفوعا :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 321 ] "ستكون بعدي فتنة النائم فيها خير من اليقظان ، والجالس خير من القائم ، والقائم خير من الساعي " ، ولابن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن البيلماني عن عبد الله بن فروخ ، عن أنس مرفوعا : "تكون فتنة النائم فيها خير من القاعد " ، ثم قال : قال أبي : هذا خطأ .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              يريد القاعد عنها خير من القائم الذي لا يستشرفها . قال الداودي : والظاهر أنه إنما أراد أن يكون فيها قاعدا قال : والقائم خير من الماشي في أسبابه لا يردونها ، فربما وقع في شيء يكرهه أو يضره . قال : وقوله : "من تشرف لها " أي : دخل في شيء منها ، قال : وقوله : "تشرفه " معناه : من دخل في شيء منها ، وانتصب قبلته ، ويكون من أشرف لها ، الإشراف لها على حاله من خير أو شر . يقال : أشرف المريض إذا أشفى على الموت ويقال : هم على شرف من كذا . ويقال : استشرفته أي أهلكت ما أشرف منه وأصابته ؛ قال : وروي في حديث : "إن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وإنها أقرب إلى الله تعالى إذا كانت في قعر بيتها " .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("فمن وجد ملجأ أو معاذا " ) معناهما واحد ، ومعاذ بالفتح ، قال ابن التين : ورويناه بضمها .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : ما معنى حديث الباب ، وهل المراد به كل فتنة بين [ ص: 322 ] المسلمين أو بعض الفتن دون بعض ؟ وعلى الأول ما تقول في الفتن الماضية وقد علمت أنه نهض فيها من أخيار الناس خلق كثير .

                                                                                                                                                                                                                              وإن قلت : الثاني ، فما المعني به ، وما الدليل على ذلك ؟ أجاب الطبري بأنه قد اختلف السلف في ذلك ؛ فقال بعضهم : المراد به جميع الفتن وعليه الاستسلام ولزوم البيوت ، وهي التي قال الشارع فيها : "القاعد فيها خير من القائم " ، وممن قعد فيها : حذيفة ومحمد بن مسلمة وأبو ذر وعمران بن حصين وأبو موسى الأشعري وأسامة بن زيد وأهبان بن صيفي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو بكرة ، ومن التابعين : شريح والنخعي .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حجتهم من طريق النظر وهو التأويل ، وإن كان خطأ كالمجتهد ، والواجب إذا اقتتل حزبان من المسلمين بهذه الصفة ترك المعاونة ولزوم البيت ، كما أمر الشارع أبا ذر ومحمد بن مسلمة وابن عمر وما عمل به من تقدم من الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون : إذا كانت فتنة بين المسلمين فالواجب لزوم البيوت ، وترك معونة أحد الحزبين ، نعم يدفع وإن أتى على النفس فهو شهيد . روي ذلك عن عمران بن حصين وابن عمر وعبيدة السلماني .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون : كل فرقتين اقتتلا ، فإن كانتا مخطئتين فعلى المسلمين الأخذ على أيديهم والعقوبة وإن كانت أخطأت إحداهما فالواجب الأخذ على الأولى ومعونة الثانية ، روي ذلك عن علي وعمار وعائشة وطلحة ورواية عن ابن عمر ، وقتل أويس القرني مع علي في الرجالة كما قاله إبراهيم بن سعد ، وروى الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت أني لم أقاتل [ ص: 323 ] هذه الفئة الباغية كما أمرني الله . وقال عبد الله بن عمرو : لم أضرب بسيف ولم أطعن برمح ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أطع أباك " فأطعته . وقيل لإبراهيم النخعي : من كان أفضل علقمة أو الأسود ؟ فقال : علقمة ؛ لأنه شهد صفين وخضب سيفه بها . وقال : أبو إسحاق شهد مع علي عبيدة السلماني وعلقمة وأبو وائل وعمرو بن شرحبيل . وقال ابن إسحاق : خرج مع ابن الأشعث في الجماجم ثلاثة آلاف من التابعين ليس في الأرض مثلهم أبو البختري والشعبي وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن البصري .

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون : كل قتال وقع بين المسلمين ولا إمام لجماعتهم يأخذ المظلوم من الظالم فذلك القتال هو الفتنة التي أمر الشارع بالاختفاء في البيوت فيها ، وكسر السيوف ، سواء أكانتا مخطئتين أو إحداهما . روي ذلك عن الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري : وأنا قائل بالصواب في ذلك وأجمع بين أمره بالبيوت وما عارضه من الأمر بقتال الناكثين والفاسقين والمارقين والأخذ على أيدي السفهاء والظالمين أن الفتنة أصلها البلاء والاختبار ، وكان حقا على المسلمين إقامة الحق ونصرة أهله وإنكار المنكر كما وصفهم الله تعالى بقوله : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة الآية [النور : 41 ] . فمن أعان المحقة فهو المصيب .

                                                                                                                                                                                                                              ويستحيل عقلا اقتتالهم وكلاهما محق . والحالة التي وصف الشارع أن : "القاعد فيها خير من القائم " هي حالة البطلان منهما ، يعني : القاعد [ ص: 324 ] عنها خير من الناهض . وكذا إذا أشكل على الناظر خطأ إحداهما وإصابة الأخرى .

                                                                                                                                                                                                                              ويحتمل أن يكون مخرج الكلام من الشارع ذلك كان في خاص من الناس على ما روي عن عمار لأبي موسى - رضي الله عنهما - ، وتبطأ عن النهوض فيها ، ونهى عن السعي إليها ، وأمر بالجلوس عنها من جلة الصحابة كسعد وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأبي مسعود الأنصاري وابن عمر وأبي موسى وغيرهم يكثر إحصاؤهم .

                                                                                                                                                                                                                              روى أهل العراق عن علي وعبد الله أنه - عليه السلام - أمر عليا - رضي الله عنه - بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . وعن أبي سعيد وغيره أنه - عليه السلام - قال : "لتقاتلن على تأويله كما قاتلت على تنزيله " .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أهل الشام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاوية : أنه الذي يقاتل على الحق ، وأنه - عليه السلام - ذكر فتنة ، فمر به عثمان - رضي الله عنه -فقال : "هذا وأصحابه يومئذ على الحق " .

                                                                                                                                                                                                                              وكل راو منهم لرواية يدعي أنها الحق ، وأن تأويله أولى . وإذا كان الأمر كذلك ، علم أن القول في ذلك من غير وجه النص والاستخراج الذي لا يوجد في مثله إجماع من الأمة على معنى واحد .

                                                                                                                                                                                                                              ولذلك قيل في قتلى الفريقين ما قيل من رجاء الفريق الآخر (الإصابة ) وأمن على فريق الشبهة .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية