الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6878 7308 - حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حمزة، سمعت الأعمش قال: سألت أبا وائل: هل شهدت صفين؟ قال: نعم. فسمعت سهل بن حنيف يقول ح.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر. قال: وقال أبو وائل: شهدت صفين، وبئست صفون. [ انظر: 3181 - مسلم: 1785 - فتح: 13 \ 282 ].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي الأسود، واسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل بن خويلد بن راشد الأسدي يتيم عروة، عن عروة عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا بعد أن أعطاكموه، ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، [ ص: 66 ] فيضلون ويضلون". فحدثت عائشة - رضي الله عنها - . . وذكر باقيه.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي حمزة، واسمه: محمد بن ميمون السكري المروزي قال: سمعت الأعمش قال: سألت أبا وائل: هل شهدت صفين؟ قال: نعم. فسمعت سهل بن حنيف يقول. ثم ساقه من حديث أبي عوانة، عن الأعمش قال: قال سهل بن حنيف: يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر. وقال أبو وائل: وبئست الصفون.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              روى مبارك بن فضالة، قال الطبري: عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن أبيه - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين. . كقول سهل سواء.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب وغيره: لا شك أنه إذا كان الرأي والقياس على أصل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة فهو محمود وهو الاجتهاد كما سلف الذي أباحه الله تعالى للعلماء.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 67 ] وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف فهو ما لم يكن على هذه الأصول; لأنه ظن ونزغ من الشيطان يوضحه قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [ الإسراء: 36 ] قال ابن عباس - رضي الله عنه - : لا تقل ما ليس لك به علم. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم. وأصل القفو العضه والبهت فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه سائل عما قال صاحبها فتشهد عليه جوارحه بالحق، ومثل هذا حديث الباب، ألا ترى أنه وصفهم بالجهل فلذلك جعلهم ضالين وهم خلاف الذين قال الله تعالى فيهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء: 83 ] وأمرهم بالرجوع إلى قولهم.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: قول سهل، وعمر - رضي الله عنهما - : اتهموا الرأي. يرد قول من استعمله في الدين، وأنه لا يجوز شيء منه; لأنهم أخطأوا يوم أبي جندل في مخالفتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلحه المشركين ورده لأبي جندل إلى أبيه وهو يستغيث وكان قد عذب في الله وهم يظنون أنهم محسنون ( في مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ).

                                                                                                                                                                                                                              قيل: وجه قولهما: الرأي الذي هو خلاف لرأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورأيه على الدين الذي هو نظير آرائنا التي كنا خالفنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أبي جندل، فإن ذلك خطأ.

                                                                                                                                                                                                                              فأما الاجتهاد من الكتاب والسنة والإجماع فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم وبنحو هذا جاءت الأخبار عن الشارع وعن [ ص: 68 ] جماعة الصحابة والتابعين كحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنه - عليه السلام - لما انصرف من الأحزاب قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلى ناس وتخلف آخرون فلم يعنف واحدا منهما، وهذا الخبر نظير خبر سهل بن حنيف. ومن حرص [ يوم أبي ] جندل على القتال اجتهادا منهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى ترك قتالهم في أنه لم يؤثم أحد الفريقين لا من صلى ولا من أخر; لأن معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا فوات وقتها، وكذلك لم يؤثم أيضا من لم يصل، وأن معنى أمرهم بذلك كان عندهم لا يصلوها إلا في بني قريظة وإن فاتكم وقتها فعذر كل واحد منهم لهذه العلة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى سفيان عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح أنه كتب إلى عمر - رضي الله عنه - يسأله فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن لم يكن فبما قضى الصالحون فإن لم يكن فإن شئت تقدم وإن شئت تأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك والسلام.

                                                                                                                                                                                                                              وروى هشيم، ثنا سيار، عن الشعبي قال: لما بعث عمر - رضي الله عنه - شريحا على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم يتبين لك فاتبع فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما لم يتبين لك سنة فاجتهد رأيك.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي من حديث الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن [ ص: 69 ] شعبة، عن ناس من أهل حمص، عن معاذ - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي؟ " قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله" قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فإن لم تجد في السنة" قال: أجتهد رأيي. فقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. ولأبي داود حدثني ناس من أصحاب معاذ عن معاذ ثم ساقه وذكره الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" أن الحارث رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ. وهذا إسناد جيد فقد أنبأت هذه الأخبار أن معنى قول عمر - رضي الله عنه - السالف: أنه الرأي الذي وصفناه; لأنه محال أن يقال: اتهموه واستعملوه; لأنهما ضدان ولا يظن ذلك به، ولا بنظرائه يوضحه أيضا رواية مجاهد عن الشعبي، عن عمرو بن حريث قال: قال عمر: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا، وقد تبين هذا من عمر أنه أمر باتهام الرأي فيما خالف أحكام رسوله وسنته، وذلك أنه قال: ( أنه ) أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها، فأخبر أنه لما أعياهم حفظ سنته، قالوا برأيهم وخالفوها جهلا منهم بأحكام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته وذلك هو الجرأة على الله بما لم يأذن به في دينه والتقدم بين يدي رسوله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 70 ] فأما اجتهاد الرأي باستنباط الحق من الكتاب والسنة فذلك الذي أوجبه على العلماء فرضا وعمل به المسلمون بمحضر منه فلم يعنفهم، ولا نهاهم عنه إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفى أثرهم فيه الخلف عن السلف.

                                                                                                                                                                                                                              روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنه - ، وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : ومن عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه، فإن جاءه أمر ليس في سنة نبيه فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أرى وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف حديث سهل بن حنيف في آخر الجهاد ومر فيه من معناه ما لم نذكره هنا، وكتب عمر أيضا إلى أبي موسى - رضي الله عنهما - في كتابه الطويل يعلمه القضاء فقال: اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : لم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل العراق، فقال عمر - رضي الله عنه - : قيسوا من نحو العراق إلى نحو قرن.

                                                                                                                                                                                                                              ثم اعلم أن البخاري ترجمه بعد في باب: من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل، ثم ذكر حديث:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 71 ] "لعله نزعه عرق"، وحديث ابن عباس "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ " وهو صريح في العمل بالقياس الصحيح، وما ذمه هنا من القياس الباطل، وصنف ابن حزم في إبطال القياس مصنفين، ولا يلتفت إليه وهو مسبوق بالنظام وداود وشرذمة قليلة والجم على خلافه، قال المهلب: أنكره النظام وطائفة من المعتزلة واقتدى به في ذلك ونسب إلى الفقيه داود بن علي، والجماعة هم الحجة ولا يلتفت إلا من شذ عنها، وسنوضح الكلام عليه هناك.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله في حديث سهل: ( يفظعنا ) هو بضم أوله على أنه رباعي، قال الجوهري وابن فارس: وأفظع اشتد وشنع وجاوز المقدار، قال: وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله. أي: نزل به أمر عظيم، وأفظعت الشيء واستفظعته وجدته فظيعا. وقوله: ( إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه ). أي: أفضين بنا إلى سهوله.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقول أبي وائل: ( بئست صفون ) وفي نسخة: الصفون بالجمع السالم كما سمي الرجل يزيدين، أو عمرين فيجريه في حال التثنية مجراه في الجمع وما كان من الواحد عن بناء الجمع فإعرابه كإعراب الجمع، مثل ( فلسطين دخلت )، وهذه فلسطون، وأتيت قنسرين، وهذه قنسرون.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 72 ] وأنشد المبرد:


                                                                                                                                                                                                                              وشاهدنا الحل والياسمون والمستعاب بقضائها

                                                                                                                                                                                                                              ومن هذا قوله تعالى: كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون [ المطففين: 18 - 19 ].

                                                                                                                                                                                                                              وفيه مذهب آخر للعرب وهو أن يعربوا النون ويجعلوها بالياء في كل حال; كقولك هذه السلحين، ومررت بالسلحين، ورأيت السلحين وصفين موضع، قال الداودي: وقوله: ( وبئست صفون ). أي: الموضع الذي يسمى صفون، ويقال له أيضا: صفون.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية