الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              63 [ ص: 278 ] 6 - باب: ما جاء في العلم

                                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى: وقل رب زدني علما [طه: 114]

                                                                                                                                                                                                                              القراءة والعرض على المحدث. ورأى الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة، واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: آلله أمرك أن تصلي الصلوات؟ قال: "نعم". قال: فهذه قراءة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه. واحتج مالك بالصك يقرأ على القوم فيقولون: أشهدنا فلان. ويقرأ ذلك قراءة عليهم، ويقرأ على المقرئ، فيقول القارئ: أقرأني فلان.

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا محمد بن سلام، ثنا محمد بن الحسن الواسطي، عن عوف، عن الحسن قال: لا بأس بالقراءة على العالم.

                                                                                                                                                                                                                              وأخبرنا محمد بن يوسف الفربري، وحدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدث فلا بأس أن يقول: حدثني. قال: وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: القراءة على العالم وقراءته سواء.

                                                                                                                                                                                                                              63 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث، عن سعيد -هو المقبري- عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم. فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجبتك". فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: "سل عما بدا لك". فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى [ ص: 279 ] الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم نعم". فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. رواه موسى، وعلي بن عبد الحميد، عن سليمان، عن ثابت، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. بهذا. [ مسلم: 12 - فتح: 1 \ 148]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              نا عبد الله بن يوسف، نا الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم. فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجبتك". فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: "سل عما بدا لك". فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم". قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم نعم". فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. رواه موسى، وعلي بن عبد الحميد، عن سليمان، عن ثابت، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. بهذا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 280 ] الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث قد أخرجه البخاري من حديث شريك وثابت، عن أنس كما سترى، وقد علقه أولا وأسنده ثانيا، وأخرجه مسلم، عن عبد الله بن هاشم، عن بهز بن أسد، عن سليمان به.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الترمذي، عن البخاري، عن علي بن عبد الحميد، ثم قال: حسن غريب، ورواه النسائي، عن محمد بن معمر، عن العقدي، عن سليمان.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في التعريف برواته غير (من) سلف:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف التعريف بأنس، وكرره شيخنا قطب الدين في "شرحه"، وأما الراوي عنه فهو أبو عبد الله شريك (ع) بن عبد الله بن أبي نمر المدني القرشي أو الليثي أو الكناني - أقوال- وجده أبو نمر.

                                                                                                                                                                                                                              شهد أحدا مع المشركين، ثم اهتدى للإسلام، ذكره ابن سعد في مسلمة الفتح، سمع أنسا وغيره، وعنه سليمان بن بلال، وغيره، قال ابن سعد : كان ثقة كبيرا، وقال يحيى بن معين : ليس به بأس، وقال ابن عدي: مشهور من أهل الحديث، حدث عنه الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة فلا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 281 ] مات سنة أربعين ومائة. أخرجوا له إلا الترمذي، ففي "الشمائل".

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: رواه موسى لعله ابن إسماعيل التبوذكي الحافظ، فإنه سمع سليمان بن المغيرة، وعنه البخاري في: بدء الوحي كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وأما علي بن عبد الحميد فهو: أبو الحسين علي (م. س) بن عبد الحميد بن مصعب بن يزيد الأزدي المعني -نسبة إلى معن- وهو ابن أخي عبد الرحمن بن مصعب القطان، وقال ابن أبي خيثمة هو: ابن عم معاوية بن عمر.

                                                                                                                                                                                                                              وروى عن: سليمان وغيره، وعنه: البخاري تعليقا، وأبو حاتم،

                                                                                                                                                                                                                              وغيرهما. ثقة فاضل، وكان ضريرا. مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين

                                                                                                                                                                                                                              ومائتين، وروى له: الترمذي، والنسائي، وأهمله الكلاباذي. له هذا

                                                                                                                                                                                                                              الحديث، وحديث آخر عن سليمان، عن ثابت، عن أنس مرفوعا:

                                                                                                                                                                                                                              "ألا أخبرك بأفضل القرآن" فتلا: الحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 282 ] قال المزي : هذا جميع ما له عندهم.

                                                                                                                                                                                                                              وأما سليمان (ع) بن المغيرة فهو أبو سعيد القيسي البصري مولى بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل، سمع الحسن وثابتا البناني وغيرهما، وعنه: الثوري، وشعبة، وتوثيقه مجمع عليه وهو سيد أهل البصرة، مات سنة خمس وستين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              روى له البخاري مع هذا التعليق حديثه عن حميد بن هلال، عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد في المرور.

                                                                                                                                                                                                                              وأما ثابت (ع) فهو أبو أحمد ثابت بن أسلم البناني البصري العابد، وبنانة هم بنو سعد بن لؤي بن غالب، وأم سعد بنانة، قاله الخطيب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزبير بن بكار: وكانت بنانة أمة لسعد بن لؤي حضنت بنيه فنسبوا إليها.

                                                                                                                                                                                                                              سمع أنسا وغيره من الصحابة والتابعين، وعنه خلق، وهو ثقة [ ص: 283 ] بإجماع، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الباب من الأسماء محمد بن سلام، وقد تقدم، وكرره شيخنا قطب الدين في "شرحه".

                                                                                                                                                                                                                              ومحمد بن الحسن الواسطي المزني القاضي الثقة، أخرج له

                                                                                                                                                                                                                              البخاري هذا الأثر خاصة، ونقل في "تاريخه" عن ابن معين توثيقه، مات سنة تسع وثمانين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى له الترمذي وابن ماجه أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وعوف هو: ابن أبي جميلة، وقد سلف وكرره شيخنا أيضا. وكذا كرر ترجمة عبيد الله بن موسى العبسي.

                                                                                                                                                                                                                              وأبو عاصم هو: الضحاك (ع) بن مخلد بن الضحاك بن مسلم بن رافع بن الأسود بن عمرو بن زالان بن ثعلبة بن شيبان الشيباني البصري النبيل الحافظ العالم الزاهد، روى عن ابن عجلان وغيره من الكبار، وعنه: البخاري والدوري وخلق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 284 ] قال عن نفسه: ما دلست قط، ولا اغتبت أحدا منذ عقلت تحريم الغيبة، مات في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين عن تسعين سنة وستة أشهر، سمي نبيلا; لأن ابن جريج لما قدم بالفيل البصرة ذهب الناس ينظرون إليه فقال له: مالك، ألا تنظر؟! فقال: لا أجد منك عوضا، فقال: أنت نبيل. وقيل: لأنه كان يلبس الخز وجيد الثياب فإذا أقبل قال ابن جريج : جاء النبيل.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              ضمام هذا هو: ابن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر كما سلف، وكان قدومه سنة تسع فيما قاله أبو عبيدة، والطبري، وابن إسحاق، وقال الواقدي: سنة خمس.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: في ألفاظه.

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (بينا). أي: بين أوقات كذا ثم حذف المضاف، وقوله: (متكئ). هو مهموز، يقال: اتكأ على الشيء فهو متكئ، والموضع: متكأ، كله مهموز الآخر، وكذا توكأت على العصا، وكل من استوى على وطاء فهو متكئ وهذا المعنى هو المراد في الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 285 ] وقوله: (بين ظهرانيهم) -هو بفتح الظاء والنون- أي: بينهم، قال الأصمعي وغيره يقال: بين ظهريهم وظهرانيهم.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              مراد البخاري رحمه الله بالعرض: القراءة على الشيخ، سميت بذلك; لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه كما يعرض القارئ على المقرئ، وسواء قرأت أو قرأ غيرك وأنت تسمع من كتاب أو حفظ حفظ الشيخ ما تقرأه عليه أم لا، لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره.

                                                                                                                                                                                                                              ولا خلاف أنها صحيحة إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه، فيحتمل أن البخاري أراد بعقد هذا الباب الرد على هؤلاء، واحتج عليهم بقول الحسن وغيره، وهذا المذهب محكي عن أبي عاصم النبيل، فيما حكاه الرامهرمزي عنه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : أخبرنا مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس يقول لبعض من يحتج عليه في العرض أنه لا يجزئه إلا المشافهة، فيأبى ذلك ويحتج بالقراءة على المقرئ وهو أعظم من الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ثم اختلفوا بعد ذلك في مساواتها للسماع من لفظ الشيخ في الرتبة أو دونه أو فوقه على ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                              (أولها): إنها أرجح من قراءة الشيخ وسماعه، قاله أبو حنيفة [ ص: 286 ] وابن أبي ذئب وغيرهما ومالك في رواية، واستحب مالك القراءة على العالم، وذكر الدارقطني في كتاب "الروايات عن مالك " أنه كان يذهب إلى أنها أثبت من قراءة العالم.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر فيه أيضا أنه لما قدم أمير المؤمنين هارون المدينة حضر مالك، فسأله أن يسمع منه محمد والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين، فقال: العلم يؤتى إليه ولا (يأتي)، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا إليه، فساروا إليه ومؤدبهم، فسألوه أن يقرأ عليهم فأبى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال: إن علماء هذا البلد قالوا: إنما يقرأ على العالم ويفتيهم مثل ما يقرأ القرآن على المعلم ويرد، سمعت ابن شهاب بحر العلماء يحكي عن سعيد وأبي سلمة وعروة والقاسم وسالم وغيرهم أنهم كانوا يقرأون على العلماء، وما احتج به مالك في الصك يقرأ فيقولون: أشهدنا فلان، حجة ظاهرة; لأن الإشهاد أقوى بخلاف الإخبار، وكذلك القراءة على المقرئ.

                                                                                                                                                                                                                              القول الثاني عكسه: إن قراءة الشيخ بنفسه أرجح من القراءة عليه، وهذا ما عليه الجمهور، وقيل: إنه مذهب جمهور أهل المشرق.

                                                                                                                                                                                                                              القول الثالث: إنهما سواء، وهو قول ابن أبي الزناد وجماعة -كما حكاه عنهم ابن سعد، وقيل: إنه مذهب معظم علماء الحجاز، والكوفة، ومذهب مالك وأشياعه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 287 ] سادسها: في فوائد الحديث وأحكامه:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: قبول خبر الواحد; فإنه لم ينقل أن قومه كذبوه فيما أخبرهم به.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: جواز الاتكاء بين الناس.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: التواضع; فإنه -عليه السلام- كان يجلس مختلطا بهم، وهو من تواضعه.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: جواز إدخال البعير المسجد وعقله، كذا استنبطه ابن بطال.

                                                                                                                                                                                                                              وليس صريحا فيه بل في رواية ابن إسحاق أنه أناخ بعيره على باب المسجد وعقله. ثم شرع يستنبط منه طهارة روثه، معللا بأنه لا يؤمن ذلك من البعير مدة إقامته. وقد علمت أن ذلك كان خارج المسجد فلا دلالة فيه إذن.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: التعريف بالشخص; فإنه قال: أيكم محمد؟ وقال: ابن عبد المطلب.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: النسبة إلى الأجداد، فإنه قال: ابن عبد المطلب، وجاء في "صحيح مسلم ": يا محمد. فإن قلت: لم لم يخاطب بالنبوة ولا بالرسالة وقد قال تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [النور: 63]؟ قلت: يحتمل أوجها:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أنه لم يؤمن بعد.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أنه باق على جفاء الجاهلية، لكنه لم ينكر عليه ولا رد عليه.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: لعله كان قبل النهي عن مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 288 ] رابعها: لعله لم يبلغه.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: أن السكوت كالإقرار، فإنه لما قال: ابن عبد المطلب، قال له - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجبتك"، ولم يتلفظ بالجواب، فجعل السكوت عند قول أصحابه ما قالوه جوابا منه عما سألوه عنه، على أنه جاء في "سنن أبي داود" في هذا الحديث من طريق ابن عباس أنه قال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا ابن عبد المطلب"، فقال: يا ابن عبد المطلب وساق الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وأجاب بعضهم عن عدم جوابه لفظا على الرواية الأولى; بأنه -عليه السلام- كره ما دعاه به حيث لم ينسبه إلى ما شرفه الله به من النبوة والرسالة، ونسبه إلى جده.

                                                                                                                                                                                                                              وأما قوله -عليه السلام- يوم حنين: "أنا ابن عبد المطلب" فلم يذكره افتخارا; لأنه كان يكره الانتساب إلى الكفار، لكنه أشار إلى رؤيا رآها عبد المطلب مشهورة كانت إحدى دلائل نبوته فذكرهم بها، وبخروج الأمر على الصدق فيها.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: استنبط منه الحاكم أبو عبد الله طلب الإسناد العالي، ولو كان الراوي ثقة، إذ البدوي لم يقنعه خبر الرسول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى رحل بنفسه، وسمع ما بلغه الرسول عنه، وما ذكره إنما يتم إذا كان ضمام قد بلغه ذلك أولا، وقد جاء ذلك مصرحا به في رواية مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 289 ] التاسعة: جواز الاستحلاف على الخبر، ليحكم باليقين. وفي مسلم : فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض -ونصب هذه الجبال- آلله أرسلك؟ قال: "نعم"، والظاهر أن هذه الأيمان هنا للتأكيد وتقرير الأمر فقط، كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة كقوله: قل إي وربي إنه لحق [يونس: 53]، وكقوله: قل بلى وربي لتأتينكم [سبأ: 3]، وقوله: قل بلى وربي لتبعثن [التغابن: 7].

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة: فيه أن الرجل يعرف بصفته من البياض والحمرة والطول والقصر; لقولهم: فقلنا هذا الرجل الأبيض.

                                                                                                                                                                                                                              الحادية عشرة: تقديم الإنسان بين (يدي) حديثه مقدمة يعتذر فيها; ليحسن موقع حديثه عند المحدث واختير له على ما يأتي منه، وهو من حسن التوصل، وإليه الإشارة بقوله: إني سائلك فمشدد عليك.

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أنه قد تقدم في باب الزكاة من الإسلام في الكلام على حديث طلحة بن عبيد الله ما له تعلق بحديث أنس هذا، وقد عقبه مسلم بحديث طلحة، وفيه زيادة ذكر الحج، وسياقه له عقبه يدل على أن الحديثين عنده لضمام; لأن هذا الثاني لم يختلف فيه أنه لضمام، وقد ساقه ابن إسحاق من حديث ابن عباس بزيادات، وفيه أن بني سعد بن بكر بعثوا ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين، وفيه: آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد؟ ثم ذكر الصلاة، ثم جعل يذكر له فرائض الإسلام، فريضة فريضة، الصيام والزكاة والحج والشرائع كلها، ينشده عن كل واحد، حتى إذا فرغ [ ص: 290 ] قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: فأتى قومه فقال: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه، اتق الجذام، اتق البرص.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضرته أحد إلا مسلما .

                                                                                                                                                                                                                              وظاهر هذا السياق أنه لم يأت مسلما، وإنما أسلم بعد، وقد بوب عليه أبو داود باب: في المشرك يدخل المسجد، لا جرم.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي: الظاهر أنه (لم يأت إسلامه بعد) وأنه جاء (مستفتيا). ويدل عليه قوله في مسلم : وزعم رسولك، وقوله في حديث ابن عباس: فلما فرغ تشهد.

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول بعضهم: الظاهر أن البخاري فهم إسلامه قبل قدومه، وأنه جاء يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا بوب عليه: العرض على المحدث; ولقوله آخر الحديث: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي. فضعيف; لأنه لا يلزم ذلك منه، وكذا قوله: آمنت بما جئت به، يحتمل أنه ابتداء إيمان لا إخبار بإيمان سالف.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية