الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              892 [ ص: 598 ] 36 - باب: الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب

                                                                                                                                                                                                                              إذا قال لصاحبه: أنصت. فقد لغا. وقال سلمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينصت إذا تكلم الإمام.

                                                                                                                                                                                                                              934 - حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت. والإمام يخطب فقد لغوت". [مسلم: 851 - فتح: 2 \ 414]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق بإسناده من حديث عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              أما حديث سلمان فسلف في (باب: لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة) وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم والأربعة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الترمذي: وفي الباب عن ابن أبي أوفى وجابر بن عبد الله.

                                                                                                                                                                                                                              قال الدارقطني: تفرد به الزهري، ثم طرقه، قال: والمحفوظ ما في البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 599 ] وذكر الاختلاف فيه أيضا عبد الغني المقدسي وتابع سعيدا إبراهيم بن قارظ، وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ، أخرجهما مسلم، وذكره الحميدي من طريق إبراهيم بن عبد الله بن قارط.

                                                                                                                                                                                                                              ولأحمد وأبي داود: من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر، ومن قال: صه. فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له.

                                                                                                                                                                                                                              ورواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "فقد لغيت" قال ابن عيينة: "لغيت" لغة أبي هريرة.

                                                                                                                                                                                                                              ولأحمد من حديث ابن عباس مرفوعا: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: "أنصت" ليس له جمعة" أي: كاملة مثل المنصت. وذكره ابن بطال عن ابن أبي شيبة مرفوعا، وعن عمر وابنه كذلك. وإنما أولناه بذلك; لأن جماعة الفقهاء يجمعون على أن جمعته مجزئة عنه، ولا يصلي أربعا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 600 ] قال ابن وهب: من لغا كانت صلاته ظهرا ولم تكن له جمعة، وحرم فضلها. وقال عطاء: لا يقطعها شيء.

                                                                                                                                                                                                                              ولابن ماجه لما قال أبي لأبي الدرداء وسأله: متى أنزلت هذه السورة؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ تبارك على المنبر، فلما انصرفنا قال له أبي: ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق أبى".

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مسند أحمد": براءة.

                                                                                                                                                                                                                              ولابن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب هو المقول فيه: صدق عمر. وهو مرسل. وفي رواية له ضعيفة أن سعد بن أبي وقاص سمع رجلا يتكلم فقال له: لا جمعة لك، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "صدق سعد" وللبيهقي بإسناد جيد أن أبا ذر هو السائل لأبي بن كعب قال: وقيل: إن جابرا هو السائل لابن مسعود.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وهذا الاختلاف إنما هو في اسم صاحب القصة، واتفقت الرواة على تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - قائله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 601 ] ولأحمد: لا جمعة لك; ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو يرفعه: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو، وهو حظه منها، ورجل حضرها بدعاء إن شاء الله أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله -عز وجل- يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام: 160].

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              أنصت ينصت إنصاتا إذا سكت واستمع إلى الحديث، تقول منه: أنصتوا وأنصتوا له.

                                                                                                                                                                                                                              قال (أبو المعالي) في "المنتهى": نصت ينصت: إذا سكت، وأنصت لغتان. أي: استمع. يقال: أنصت وأنصت له، وينشد:


                                                                                                                                                                                                                              إذا قالت حذام فأنصتوها



                                                                                                                                                                                                                              ويروى: فصدقوها.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المحكم": أنصت علي. والنصت الاسم من الإنصات.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الجامع": والرجل ناصت ومنصت.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المغرب" و"المجمل": الإنصات: السكوت للاستماع. السمع للعين، والإنصات للأذن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 602 ] ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              اللغو: الهدر من القول والباطل. يقال: لغا يلغو لغوا; ولغى يلغي لغيا. وعلى هذه اللغة جاءت الرواية الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                              قال قتادة: في قوله تعالى: وإذا مروا باللغو مروا كراما [الفرقان: 72] لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              المراد بالصاحب هنا: الجليس إلى جنبه، ثم في هذه الرواية زيادة: "يوم الجمعة" وإن كان المراد بالروايات جميعها خطبة الجمعة، لكن هذه الرواية صرحت بها زيادة في البيان، وفي رواية قدم الإنصات على الجمعة، وفي (آخرها) بعكسها، وفي أخرى ذكر الإمام، وكل من هذه له فائدة.

                                                                                                                                                                                                                              فمن كانت عنايته أحد الأشياء الثلاثة قدمه في الذكر، والكل في [ ص: 603 ] العناية سواء، فأيها قدم جاز; لأنه لا بد من ذكر الإنصات والجمعة، وبذكر الثلاثة يحصل كمال الغرض.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: في فقه الباب:

                                                                                                                                                                                                                              قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا للرجل أن يتكلم والإمام يخطب، وقالوا: إن تكلم غيره فلا ينكر عليه إلا بالإشارة، واختلفوا في رد السلام، وتشميت العاطس، فرخص بعض أهل العلم في ذلك، وهو قول أحمد وإسحاق -قلت: والنخعي والشعبي والحسن والثوري والأوزاعي - وكره بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك، وهو قول الشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 604 ] قلت: ومالك والكوفي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال: جماعة أئمة الفتوى على وجوب الإنصات للخطبة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث سلمان حجة لمن رأى الإنصات عند ابتدائها، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الجوزي: اختلفت الروايات عن أحمد: هل يحرم الكلام حال سماع الخطبة؟ على روايتين، وعن الشافعي قولان، فمن حرم أخذ بظاهره، ومن أباح حمله على الأدب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن قدامة: إذا سمع من يتكلم لا ينهه بالكلام لهذا الحديث، لكن يشير إليه، نص عليه أحمد، فيضع إصبعه على فيه، قال: وممن رأى أن يشير ولا يتكلم زيد بن صوحان وعبد الرحمن بن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وابن المنذر قال: وكره الإشارة طاوس.

                                                                                                                                                                                                                              وزعم ابن العربي أن الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: يشمت ويرد.

                                                                                                                                                                                                                              وخالفهم سائر فقهاء الأمصار، وهو الحق فإن العاطس ينبغي أن يخفض صوته في التحميد، وينبغي للداخل أن لا يسلم، فإن فعل ففرضهم أهم من فرضه وأولى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن رشد: وفرق بعضهم بين السلام والتشميت، فقالوا: يرد ولا يشمت. وعن ابن وهب: من لغا فصلاته ظهر أربع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 605 ] وأما من لم يوجبها فلا أعلم له شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا [الأعراف: 204] أي: أن ما عدا القرآن لا يجب الإنصات له، وهذا فيه ضعف، والأشبه أن يكون الحديث لم يصلهم.

                                                                                                                                                                                                                              ونقل أن الكلام في حال الخطبة جائز إلا في حال القراءة، فروي عن الشعبي وسعيد بن جبير والنخعي.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "جوامع الفقه" في "المجرد" أنه ينصت ولا يقرأ ولا يصلي نفلا ولا يشتغل بالذكر وغيره، ويكره السلام وتشميت العاطس والأكل والشرب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الذخيرة" عن محمد: لا يشمت ولا يرد، ولم يذكر فيه خلافا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي يوسف خلافه.

                                                                                                                                                                                                                              والخلاف بناء على أنه إذا لم يرد السلام في الحال هل يرد بعد الفراغ من الخطبة؟ عند محمد: نعم. وعند أبي يوسف: لا. والتشميت مثله، وعن أبي حنيفة: يرده بقلبه دون لسانه، وهذا كالمتغوط إذا سمع الأذان يجيب بقلبه، فإذا فرغ أجاب بلسانه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 606 ] وحكى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان يسلم ويردون عليه، وعن إبراهيم مثله بزيادة: ويشمتون العاطس ، وعن الحكم وحماد وسالم وعامر: لا يرد السلام ويستمع. وعن طاوس ومحمد وسعيد بن المسيب مثله. وعن الباقر والقاسم: يرد في نفسه.

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن إبراهيم -بسند صحيح- أنه رئي يكلم رجلا والإمام يخطب يوم الجمعة، وكان عروة لا يرى بذلك بأسا إذا لم يسمع الخطبة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال إسماعيل بن إبراهيم عن أبيه: رأيت إبراهيم وسعيد بن جبير [ ص: 607 ] يتكلمان والحجاج يخطب، ومثله عن الشعبي وأبي بردة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: فلذا رخص جماعة من التابعين في الكلام والإمام يخطب إذا كان من أئمة الجور، أو أخذ في خطبته في غير ذلك ، وروى ابن أبي شيبة أن إبراهيم كلم في ذلك فقال: إني كنت قد صليت.

                                                                                                                                                                                                                              ورأى الليث إذا أخذ الإمام في ذكر الخطبة أن يتكلم ولا ينصت، وعن مالك: يسكت الناس بالتسبيح والإشارة ولا يحصبهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن مس الحصى فقد لغا" وكان ابن عمر يحصب. وليس عليه العمل، وروى ابن المنذر أيضا عن مالك: لا بأس بالإشارة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القاضي أبو الوليد: مقتضى مذهبه أن لا يشير; لأنها كالقول، وسماه الشارع: لاغيا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 608 ] والأول أشبه; لأنها في الصلاة ليست كلاما، وعن مالك أيضا أن الإمام إذا لغا وشتم الناس فعليهم الإنصات ولا يتكلمون، وخالفه ابن حبيب قال: وفعله ابن المسيب لما لغا الإمام أقبل سعيد على رجل يكلمه، وعنه أيضا: إذا خطب في أمر ليس من الخطبة ولا من الصلاة من أمر كتاب يقرؤه ونحو ذلك فليس على الناس الإنصات، وعن ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم فاقرع رأسه بالعصى.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن المنذر: رخص مجاهد وطاوس في شرب الماء، ونقله عن الشافعي، وعن أحمد: إن لم يسمع الخطبة شرب، وقد سلف جملة في ذلك في باب الاستماع إلى الخطبة، فراجعه أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: معنى الحديث: المنع من الكلام عند الخطبة وأكد ذلك بأن من أمر غيره بالإنصات إذن فهو لاغ، وخص هذا تنبيها على أن كل متكلم لاغ.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: فإن قلت: معنى لغوت: أمرت بالإنصات من لا يجب عليه.

                                                                                                                                                                                                                              فالجواب أنه لا خلاف بيننا في الأمر بالإنصات وإلا فلا معنى للخطبة إن لم ينصت فيها للإمام ويسمع وعظه ويفهم أمره ونهيه، فلا يجوز أن يكون الآمر بالإنصات لاغيا; لأجل أمره; لأن الإنصات مأمور به في الجمعة فلم يبق إلا أن يكون لاغيا لما تكلم في وقت هو ممنوع من الكلام فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن شهاب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خطب الإمام فاستقبلوه بوجوهكم واصغوا إليه بأسماعكم، وارمقوه بأبصاركم".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 609 ] فرع:

                                                                                                                                                                                                                              في المنع من الكلام من دخل رحاب المسجد والإمام يخطب خلاف، منعه أصبغ وأجازه مطرف وابن الماجشون.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في ابتداء الإنصات وفي آخره، فعند مالك وأصحابه: أوله من حيث يشرع في الخطبة وبين الخطبتين، وكره ابن عيينة الكلام بعد انقضاء الخطبة حتى تنقضي الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              من لم يسمع كالسامع عند عثمان ومالك، خلافا لعروة وأحمد، وأحد قولي الشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              كلام حاضر القراءة ضربان: عبادة كالقراءة والذكر فكثيره [ ص: 610 ] ممنوع; لأن بذلك يفوت مقصود الخطبة، وهما لا يفوتان، ويسيره إن اختص به كالحمد للعطاس والتعوذ عند ذكر النار فخفيف.

                                                                                                                                                                                                                              قال أشهب: الإنصات أحب إلي منه، فإن فعل فسرا، وإن لم يختص به كالتشميت فهو ممنوع منه عند ابن المسيب ومالك.

                                                                                                                                                                                                                              ورخص فيه وفي رد السلام الحسن والنخعي والشعبي والحكم وحماد وإسحاق، دليل الأول أن الاشتغال به يفوت الإنصات; ولذلك لا يجهر العاطس; لأن فيه استدعاء من يشمته، ذكره كله ابن التين.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية