الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1136 [ ص: 240 ] 4 - باب: إتيان مسجد قباء راكبا وماشيا

                                                                                                                                                                                                                              1194 - حدثنا مسدد حدثنا يحيى ، عن عبيد الله قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء راكبا وماشيا .

                                                                                                                                                                                                                              زاد ابن نمير : حدثنا عبيد الله عن نافع : فيصلي فيه ركعتين . [انظر : 1191 - مسلم : 1399 - فتح: 3 \ 69]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكره بزيادة : فيصلي فيه ركعتين .

                                                                                                                                                                                                                              فأما الحديث الأول فأخرجه مسلم ، وكذا الثالث والثاني أخرجاه .

                                                                                                                                                                                                                              وزعم الطرقي أن أبا داود أخرجه ولم يعزه ابن عساكر إليه . وفي "أخبار المدينة " لابن شبة من حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه صبيحة سبع عشرة من رمضان .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث الدراوردي عن شريك بن عبد الله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء يوم الاثنين . و (قباء ) يذكر ويؤنث ، ويمد ويقصر ، ويصرف ولا يصرف ، ست لغات ، والأفصح المد مع التذكير والصرف .

                                                                                                                                                                                                                              ومنع ابن التين القصر فقال : هو ممدود على كل حال . وهو من عوالي المدينة قريب منها . وقال في "المطالع " : إنه على ثلاثة أميال منها . قال : وأصله باسم بئر هناك ، وألفه واو .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 241 ] وقال البكري : وقباء موضع آخر في طريق مكة من البصرة ، وهو مسجد بني عمرو بن عوف ، وهو أول مسجد أسس على التقوى على قول ستعلمه . وأول من وضع فيه حجرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أبو بكر ، ثم عمر .

                                                                                                                                                                                                                              والحديث دال على فضله ، وفضل مسجده والصلاة فيه ، وزيارته راكبا وماشيا ، وهكذا جميع المواضع الفاضلة تزار كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وفي إتيانه إياه يوم السبت دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة ، والمداومة على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وأصل مذهب مالك كراهة تخصيص شيء من الأوقات بشيء من القرب إلا ما ثبت به توقيف ، حكاه القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي : الصواب جواز تخصيص بعض الأيام (بالزيارة ) ، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك . ولعله لم تبلغه الأحاديث .

                                                                                                                                                                                                                              ثم إتيانه مسجد قباء دال على أن ما قرب من المساجد الفاضلة التي في المصر لا بأس أن يؤتى ماشيا وراكبا ، ولا يكون فيه ما نهى أن تعمل المطي إليه ، قاله الداودي ، قال : ولم يذكر فيه أنه كان يصلي فيه إذا أتاه ضحى ، وكان هو يصلي فيه ; لئلا يخرج منه حتى يصلي . وقال بعضهم : إتيانه إياه مع أن مسجده أفضل ; لتكثر المواضع التي يتقرب إلى الله فيها .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين : وهذا كما قال مالك أن التنفل في البيوت أحب إليه منه في مسجد الرسول إلا للغرباء ، فإن تنفلهم في مسجده أحب إليه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 242 ] وقال ابن رشد : إنما كان يأتيه لمواصلة الأنصار ، والاجتماع بهم فيه ، لا لصلاة فريضة ، ولا نافلة ; لأن صلاة الفريضة في مسجده ، والنافلة في بيته أفضل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي : ما روي من إتيانه ليصلي فيه ليس من كلامه - صلى الله عليه وسلم - ، فيحتمل أن يكون الراوي قاله من عنده ; لعلمه أنه (لا يجلس ) فيه إلا صلى فيه قبل أن يجلس . على أن قوله : (فيصلي فيه ) حرف انفرد به واحد من الرواة ، وعسى أن يكون وهما ; لأن الجماعة أولى بالحفظ من الواحد . فأما صلاته في بيته التطوع فأفضل من الصلاة في مسجده . ومسجده فوق مسجد قباء في الفضل ، فتكون صلاته في مسجد قباء لأجل التحية .

                                                                                                                                                                                                                              وجاء في مسجد قباء : "صلاة فيه كعمرة "رواه ابن ماجه ، والترمذي من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه - . قال الترمذي : وفي الباب عن سهل بن حنيف : وحديث أسيد غريب ، لا نعرف له شيئا يصح غيره .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن أبي شيبة من حديث أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه مرفوعا ، وروي (عن ) سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر أنهما قالا ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 243 ] واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى على قولين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أنه مسجد المدينة ، قاله ابن عمر ، وابن المسيب ، ومالك في رواية أشهب .

                                                                                                                                                                                                                              ووجهه ما أخرجه الترمذي من حديث أنيس بن أبي يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : امترى رجل من بني خدرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الآخر : هو مسجد قباء . فأتيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فقال : "هذا -يعني : مسجده- وفي ذلك خير كثير " قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه وكيع ، عن ربيعة بن عثمان ، حدثني عمران بن أبي أنس ، عن سهل قال : اختلف رجلان فذكره .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 244 ] وعن أسامة بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الدارقطني عن كثير بن الوليد ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . وهو قول ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، ومالك بن أنس .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني : أنه مسجد قباء ، وهو قول مجاهد ، وعروة ، وقتادة ، والبخاري -فيما حكاه ابن التين - وابن عباس ، والضحاك ، والحسن فيما حكاه ابن النقيب . قال تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه وهذا يقتضي السبق ، ومسجد قباء أسبق فيه رجال يحبون أن يتطهروا [التوبة : 108] وهم أهل مسجد قباء . كما أخرجه الترمذي من حديث أبي صالح ، عن أبي هريرة . وقال : غريب من هذا الوجه ، وفي الباب عن أبي أيوب ، وأنس ، ومحمد بن عبد الله بن سلام . وأخرجه الدارقطني من حديث أبي أيوب ، وجابر ، وأنس ، وكذا الطحاوي من حديثهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 245 ] قال ابن العربي : وثبت أن ناسا من المنافقين بنوا مسجدا ، وكانوا ينتمون إلى بني عمرو بن عوف ، وقالوا : يا رسول الله ، بنيناه لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، وقصدوا الفرار به عن مسجد قباء ، فاعتذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسفره ، وأخرهم إلى قدومه . فلما قدم أنزل الله : لا تقم فيه أبدا الآية . قال : ولا خلاف أنهم أهل قباء . والأثر مشهور جدا صحيح عن جماعة لا يحصون عدا ، فهو أولى من العمل بحديث أبي سعيد .

                                                                                                                                                                                                                              وبوب البخاري في باب هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم - : أسس النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف المسجد الذي أسس على التقوى . ولا شك أن أولئك الرجال قد كانوا في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ; لأن مسجده كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ، وما سواهم ممن صحبه ، قاله الطحاوي .

                                                                                                                                                                                                                              قال : والحديث الذي ذكره ابن العربي روي عن سعيد بن جبير ، وهو منقطع لا تقاوم بمثله الأحاديث المتصلة ، قال : فثبت أنه مسجد المدينة لا مسجد قباء .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 246 ] قال السهيلي وغيره : ويمكن أن يكون كلا منهما أسس على التقوى ، غير أن قوله : من أول يوم يرجح الأول ; لأن مسجد قباء أسس قبل مسجده ، غير أن اليوم قد يراد به المدة والوقت ، وكلاهما أسس على هذا من أول يوم ، أي : من أول عام من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف فيمن نذر الصلاة في مسجد قباء ، فذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه أوجبه فيه . وفي كتاب ابن المواز : لا ، إلا أن يكون قريبا جدا فليأته ، فليصل فيه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حبيب : قال مالك : إن كان معه في البلد مشى إليه وصلى فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين : أوجب ابن عباس مشيه على من نذره من المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ولا خلاف أن إتيانه قربة لمن قرب منه ، وليس ذلك بمخالف للنهي عن شد الرحال لغير الثلاثة ; لأن إتيانه من المدينة ليس من باب شد الرحال ، ولا إعمال المطي ; لأنه من صفات الأسفار المتباعدة ، وقطع المسافات الطويلة ، ولا يدخل في ذلك أيضا ركوبه إلى مسجد قريب لجمعة وغيرها ; لأنه جائز إجماعا ، بل هو واجب في بعض الأحيان .

                                                                                                                                                                                                                              ولو أن آتيا أتى قباء من بلد بعيد ، وتكلف فيه من السفر ما يوصف بشد الرحال ، وإعمال المطي لكان مرتكبا للنهي على هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن مسلمة في "المبسوط " : من نذر أن يأتي مسجد قباء فيصلي فيه لزمه ذلك . والأول أظهر .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية