الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1138 1196 - حدثنا مسدد عن يحيى ، عن عبيد الله قال : حدثني خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي " . [1888 ، 6588 ، 7335 - مسلم : 1391 - فتح: 3 \ 70]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث عبد الله (س ) بن زيد المازني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث خبيب بن عبد الرحمن -بضم الخاء المعجمة- عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . . . بمثله وزاد : "ومنبري على حوضي " .

                                                                                                                                                                                                                              أخرجهما مسلم في الحج ، والثاني يأتي في الحج ، والحوض ، والاعتصام .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الثاني مالك به ، لكنه قال : عن أبي هريرة ، أو أبي سعيد ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 248 ] وانفرد معن بن عيسى ، وروح بن عبادة فقالا : عن أبي هريرة ، وأبي سعيد من غير شك .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن مالك بإسقاط أبي سعيد . والحديث محفوظ لأبي هريرة ، نبه على ذلك أبو عمر .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداني في "أطرافه " : وتابع عبيد الله العمري عن خبيب جماعة . ورواه محمد بن سليمان البصري ، عن مالك ، عن ربيعة ، عن سعيد ، عن ابن عمر قال : أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "وضعت منبري على ترعة من ترع الجنة ، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " ولم يتابع عليه ، وابن سليمان ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أحمد بن يحيى الكوفي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا : "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة " وهو إسناد [ ص: 249 ] خطأ كما قاله أبو عمر . ومن الموضوعات : حديث ابن عمر المرفوع : "ما بين منبري وقبري و (أصطوانة ) التوبة روضة من رياض الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك ، فالصحيح في الرواية : "بيتي " وروي مكانه : "قبري " ، وجعله بعضهم تفسيرا و "بيتي " ، قاله زيد بن أسلم ، والظاهر بيت سكناه ، والتأويل الآخر جائز ; لأنه دفن في بيت سكناه . وروي : "ما بين حجرتي ومنبري " والقولان متفقان ; لأن قبره في حجرته ، وهي بيته .

                                                                                                                                                                                                                              وقام الإجماع على أن قبره أفضل بقاع الأرض كلها ، والروضة في كلام العرب : المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب . وحمل كثير من العلماء الحديث على ظاهره فقالوا : ينقل ذلك الموضع بعينه إلى الجنة ، قال تعالى : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء [الزمر : 74] دلت أن الجنة تكون في الأرض يوم القيامة ، ويحتمل أن يريد به أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدي بصاحبه إلى الجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "ارتعوا في رياض الجنة " يعني : حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية [ ص: 250 ] إلى الجنة ، فيكون معناه التحريض على زيارة قبره - رضي الله عنه - ، والصلاة في مسجده ، وكذا : "الجنة تحت ظلال السيوف " واستبعده ابن التين ، وقال : يؤدي إلى السفسطة والشك في العلوم الضرورية . وقال : إنها من رياض الجنة الآن ، حكاه ابن التين ، وأنكره . قال : والعمل على التأويل الثاني يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أن اتباع ما يتلى فيه من القرآن والسنة يؤدي إلى رياض الجنة ، فلا يكون فيها للبقعة فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذه المعاني دون غيرها .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني : أن يريد أن ملازمة ذلك الموضع بالطاعة يؤدي إليها ; لفضيلة الصلاة فيه على غيره . قال : وهو أبين ; لأن الكلام إنما خرج على تفضيل ذلك الموضع ، وذلك أن مالكا في "موطئه " أدخله في فضل الصلاة في مسجده على سائر المساجد ، ويشبه أن يكون تأول هذا الوجه ، وإنما خصت الروضة بهذا ; لأنها ممره بينه وبين منبره ، ولصلاته فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : معنى الحديث تفضيل المدينة ، وخصوصا البقعة [ ص: 251 ] التي بين البيت والمنبر ، يقول : من لزم الطاعة فيها آلت به إلى روضة من رياض الجنة ، ومن لزم العبادة عند المنبر سقي في الجنة من الحوض .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عمر : كأنهم يعنون أنه لما كان جلوسه ، وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بروضة لكريم ما يجتبى فيه ، وإضافتها للجنة ; لأنها تقود إليها كما قال : "الجنة تحت ظلال السيوف " ، يعني أنه عمل يوصل بذلك إلى الجنة ، وكما يقال : الأم باب من أبواب الجنة . يريد أن برها يوصل المسلم إلى الجنة . مع أداء فرائضه ، وهذا جائز شائع مستعمل في لسان العرب تسمية الشيء بما يئول إليه ويتولد عنه .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وقد استدل أصحابنا على أن المدينة أفضل من مكة بهذا الحديث ، وركبوا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . ولا دليل فيه ، وقد سلف . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( "ومنبري على حوضي " ) أي : بجانبه ، قاله الداودي . قال ابن التين : وفيه نظر . وفي رواية أخرى سلفت : "على ترعة من ترع الجنة " والترعة : الدرجة .

                                                                                                                                                                                                                              والأظهر : أن المراد به منبره الذي كان يقوم في الدنيا عليه ، يعيده الله بعينه ، ويرفعه ، ويكون في الحوض ، ونقله القاضي عن أكثر العلماء .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : إن له هناك منبرا على حوضه يدعو الناس إليه . وإن كان ابن [ ص: 252 ] التين قال : إنه ليس بالبين ، إذ ليس في الخبر ما يقتضيه . وقد قدمنا عنه استبعاد تأويل ما سلف ، وقال : إنه سفسطة ، فكيف تأول هنا بأن لزومه الطاعة يؤدي إلى ورود حوضه ؟ بل يمره على ظاهره ، ولا مانع من ذلك . وقيل : معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة فيه يورد صاحبه الحوض ، ويقتضي شربه منه . وسيأتي الكلام على حوضه في بابه إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                              وللباطنية في هذا الحديث من الغلو والتحريف ما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، كما نبه عليه القرطبي ، ففي الصحيح : أن في أرض المحشر أقواما على منابر ; تشريفا لهم وتعظيما كما قال : "إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة " ، وإذا كان ذلك في أئمة العدل ، فأحرى الأنبياء ، وإذا كان ذلك للأنبياء فأولى بذلك سيدهم ، فيكون منبره بعينه ، ويزاد فيه ويعظم ويرفع وينور على قدر منزلته ، حتى لا يكون لأحد في ذلك اليوم منبر أرفع منه لسيادته وسؤدده .

                                                                                                                                                                                                                              والإيمان بالحوض عند جماعة علماء المسلمين واجب الإقرار به ، وقد نفاه أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ، فإنهم لا يصدقون لا بالشفاعة ولا بالحوض ولا بالدجال . ثم ذكر أحاديث الحوض من طرق .

                                                                                                                                                                                                                              والحوض هو : الكوثر . حافتاه قباب اللؤلؤ وتربته المسك ، وفيه آنية لا يعلم عددها إلا الله ، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا ، وفيما أورده البخاري دلالة واضحة على ما ترجم له ، وهو فضل ما بين القبر والمنبر ، وتفسير القبر بالبيت .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية