الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1142 1200 - حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا عيسى -[هو ابن يونس]- عن إسماعيل ، عن الحارث بن شبيل ، عن أبي عمرو الشيباني قال قال لي زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت : حافظوا على الصلوات [البقرة : 238] الآية ، فأمرنا بالسكوت . [4534 - مسلم : 539 - فتح: 3 \ 72]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث علقمة ، عن عبد الله قال : كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة ، فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي ، سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال : "إن في الصلاة شغلا " .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عبد الله نحوه .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي عمرو الشيباني : قال لي زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته ، حتى نزلت : حافظوا على الصلوات [البقرة : 238] الآية ، فأمرنا بالسكوت .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 263 ] الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن مسعود أخرجه هنا وفي باب : لا يرد السلام في الصلاة كما سيأتي ، وفي هجرة الحبشة . وأخرجه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : ونأمر بحاجتنا ، وفيه : "إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وأن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث زيد بن أرقم أخرجه مسلم أيضا ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي .

                                                                                                                                                                                                                              وللبخاري : ويسلم بعضنا على بعض ، ويأتي قريبا . ولفظ [ ص: 264 ] الترمذي : كنا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت : وقوموا لله قانتين [البقرة : 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

                                                                                                                                                                                                                              وليس لأبي عمرو الشيباني عن زيد في "الصحيحين " غير هذا الحديث الواحد .

                                                                                                                                                                                                                              وعيسى في إسناده : هو ابن يونس . وذكر الترمذي عقب حديث زيد أن في الباب : عن ابن مسعود ومعاوية بن الحكم .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك : فالمصلي مناج لربه جل جلاله ، فواجب عليه أن لا يقطع مناجاته بكلام مخلوق ، وأن يقبل على ربه ويلتزم بالخشوع ، ويعرض عما سوى ذلك ، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن في الصلاة لشغلا " وقوله تعالى : وقوموا لله قانتين والقنوت في هذه الآية ، كما قال ابن بطال : الطاعة والخشوع لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              ولفظ الراوي يشعر أن المراد به : السكوت ; لقوله : (حتى ) . التي هي للغاية ، والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق ، وقيل فيها غير ذلك ، والأرجح حمله على ما أشعر به كلام الراوي ، فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون سبب النزول والقرائن المحتفة به ، وقول الصحابي في الآية : نزلت في كذا ، يتنزل منزلة المسند .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 265 ] وقوله : (وأمرنا بالسكوت ) . وفي رواية : ونهينا عن الكلام ، فكل ما يسمى كلاما منهي عنه وما لا يسمى كلاما ، وأراد إلحاقه به فهو بطريق القياس ، فليراع شرطه في مراعاة الفرع للأصل ، واعتبر أصحابنا ظهور حرفين وإن لم يفهما فإنه أقل الكلام ، وقام الإجماع على أن الكلام فيها عامدا عالما بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه تبطل الصلاة ، وأما الكلام لمصلحتها فقال الأربعة والجمهور : تبطل أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك ، وطائفة قليلة ; لأنه في تصحيح ما فيه من أمرها .

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم صريحان في أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم حرم .

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا : متى حرم ؟ فقال قوم : بمكة . واستدلوا بحديث ابن مسعود ورجوعه من عند النجاشي إلى مكة . وقال آخرون : بالمدينة . بدليل حديث زيد بن أرقم ، فإنه من الأنصار أسلم بالمدينة ، وسورة البقرة مدنية ، خصوصا هذه الآية ، وقالوا : ابن مسعود لما عاد إلى مكة من الحبشة رجع إلى النجاشي إلى الحبشة في الهجرة الثانية ، ثم ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهو يتجهز لبدر .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 266 ] وأجاب الأولون بأن الظاهر تجدد هذا الحال في غيبة ابن مسعود الأولى ، فإنه قال : فلما رجعنا من عند النجاشي . ولم يقل : في المرة الثانية .

                                                                                                                                                                                                                              وحملوا حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين ، كما يقول القائل : قتلناكم وهزمناكم . يعنون : الآباء والأجداد .

                                                                                                                                                                                                                              وقول الخطابي يحتاج إلى تأريخ ، والتأريخ بعيد كما نبه عليه ابن الجوزي ، وأبدى ابن حبان فيه شيئا حسنا ، فإنه قال : قد توهم من لم يحكم صناعة العلم أن نسخ الكلام في الصلاة بالمدينة ; لحديث زيد بن أرقم ، وليس كذلك ; لأن الكلام في الصلاة كان مباحا إلى أن رجع ابن مسعود وأصحابه من عند النجاشي فوجدوا إباحة الكلام قد نسخت ، وكان بالمدينة مصعب بن عمير يقرئ المسلمين ويفقههم ، وكان الكلام بالمدينة مباحا كما كان بمكة ، فلما نسخ ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة ، فحكى زيد ذلك الفعل ، لا أن نسخ الكلام كان بالمدينة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال : زعم الكوفيون أن حديث ابن مسعود وزيد ناسخ لقصة ذي اليدين ، وسيأتي ما فيه في موضعه قريبا ، والآثار متواترة على أن قدوم ابن مسعود من الحبشة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين لم يرد السلام كان بمكة ، وإسلام أبي هريرة كان بالمدينة عام خيبر فلا نسخ إذن ، لا يقال : إن حديث زيد ناسخ لحديث ذي اليدين لانتفاء التأريخ ، غير أن زيدا أقدم إسلاما من أبي هريرة ، ويحتمل أن يكون معنى حديث زيد : فأمرنا بالسكوت . يعني : إلا بما كان من الكلام في [ ص: 267 ] مصلحة الصلاة ، فهو غير داخل في النهي عن الكلام فيها ليوافق حديث أبي هريرة ، فلا تعارض إذن .

                                                                                                                                                                                                                              ودل حديث زيد على النوع المنهي عنه من الكلام في الصلاة ، وهو قوله : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم أحدنا صاحبه لحاجته .

                                                                                                                                                                                                                              والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الكلام في الصلاة على مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              دل حديث ابن مسعود أنهم كانوا يسلمون بعض على بعض في الصلاة ، الحديث . فبان في الحديثين النوع المنهي عنه من الكلام في الصلاة لمصلحتها ، وهذا تأويل أولى ; لئلا تتضاد الأحاديث . وقال ابن التين : الكلام نوعان : سهو ، وعمد ، فالعمد مبطل إذا لم يكن لإصلاحها ، والسهو لا يبطلها ويسجد له ، وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : تبطل صلاته بالكلام سهوا إلا لفظ السلام ، دليلنا خبر ذي اليدين ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم ، وعنده أنه فرغ منها فلما تبين له بنى ، فإن قلت : هذا عند إباحة الكلام ، بدليل أن ذا اليدين تكلم عامدا ، وكذلك أبو بكر وعمر ولم يستأنفوا . فالجواب أن تحريم الكلام مكي ، وقصة ذي اليدين مدنية . فإن قلت لي : إنما هو التحريم الأول . قلت : لا يعرف التحريم إلا مرة .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث زيد بن أرقم محمول على الجهر بالقراءة ، وفيه بعد ، وكلام ذي اليدين بناه على أنها قصرت وأن فعله لم يقع سهوا ، وإنما وقع استظهارا ، ولو ثبت الكلام فهو لمصلحة الصلاة وإجابة الشارع .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 268 ] ولنختم الكلام بفوائد ملخصة :

                                                                                                                                                                                                                              فحديث ابن مسعود ، وزيد ، وكذا جابر كما سيأتي قريبا دالة على تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لمصلحتها أم لا ، وقد سلف . وتحريم رد السلام فيها باللفظ ، وهو إجماع وأنه لا تضر الإشارة ، بل يستحب رده بالإشارة ، وبهذه الجملة قال الشافعي والأكثرون ، منهم مالك وأحمد وأبو ثور .

                                                                                                                                                                                                                              وقال جماعة من العلماء : يرد نطقا ، منهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : يرد في نفسه . وقال عطاء والنخعي والثوري ومحمد : يرد بعد السلام ، وهو قول أبي ذر وأبي العالية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : لا يرد لفظا ولا إشارة بكل حال . وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وجماعة : يرد إشارة لا نطقا ، ومن قال : يرد نطقا لم تبلغه الأحاديث .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 269 ] وأما ابتداء السلام عليه ، فمذهبنا أنه لا يسلم عليه ، فإن سلم لم يستحق جوابا . وعن مالك روايتان : الكراهة والجواز .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي حنيفة : يرده في نفسه . وعند أبي يوسف : لا يرد في الحال ، ولا بعد الفراغ .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "إن في الصلاة شغلا " ) يعني : إن المصلي يشتغل بصلاته ، ولا يعرج على سلام ولا غيره . واكتفي بذكر الموصوف عن الصفة ، فكأنه قال : شغلا كافيا أو مانعا من الكلام وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أن شيخنا علاء الدين ذكر هنا في شرحه الكلام على الصلاة الوسطى في أوراق عدة ، وليس محل الكلام فيها ، ولا تعلق له بالباب وإن وقع في الآية ، وقد أفرده بالتأليف الحافظ شرف الدين الدمياطي فكفى ، وقد لخصته في أوراق ، وأشرت إليه في موضعه .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية