الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1234 [ ص: 540 ] 36 - باب: رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد ابن خولة

                                                                                                                                                                                                                              1295 – حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : "لا " . فقلت : بالشطر ؟ فقال : "لا " ثم قال : " الثلث والثلث كبير -أو كثير - إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك " . فقلت : يا رسول الله ، أخلف بعد أصحابي ؟ قال : "إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة ، ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد ابن خولة " يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة . [انظر : 56 - مسلم : 1628 - فتح: 3 \ 164]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث سعد بن أبي وقاص قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع . . الحديث في آخره : لكن البائس سعد ابن خولة " يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة .

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع عشرة من "صحيحه "

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 541 ] ومسلم والأربعة ، والكلام عليه من أوجه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها :

                                                                                                                                                                                                                              هذا ليس من مراثي الموتى ، وإنما هو إشفاق منه من موته بمكة بعد هجرته منها وكراهة ما حدث عليه ، من ذلك يقول القائل للحي : أنا أرثي لك بما يجري عليك . كأنه يتحزن له ، قاله الإسماعيلي ، وهو كما قال .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث ابن أبي أوفى : كان - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن المرائي . فأخرجه الحاكم وقال : صحيح غريب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي صفرة : قوله : (يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة ) .

                                                                                                                                                                                                                              من قول سعد في بعض الطرق ، وأكثرها أنه من قول الزهري وليس من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : ويحتمل أن يكون قوله : (أن مات بمكة ) . و (يرثي له ) .

                                                                                                                                                                                                                              من كلام غيره تفسيرا لمعنى (البائس ) إذ روي في رواية : "لكن سعد ابن خولة البائس قد مات في الأرض التي قد هاجر منها " .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في قصة سعد ابن خولة فقيل : لم يهاجر من مكة حتى مات فيها . وقيل : بل هاجر . -أي : الثانية- ، وشهد بدرا -أي : وغيرها- ثم انصرف إلى مكة ومات بها . قاله البخاري ، فعلى هذا سبب ترثيه [ ص: 542 ] سقوط هجرته لرجوعه مختارا وموته بها ، وعلى الأول سببها موته بمكة على أي حال وإن لم يكن باختياره ; لما فاته من الثواب والأجر الكامل بالموت في دار هجرته .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني :

                                                                                                                                                                                                                              سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة . واسم والده : مالك ، مات سنة خمس وخمسين . وسعد ابن خولة -وقال أبو معشر : ابن خولي- هو زوج سبيعة الأسلمية .

                                                                                                                                                                                                                              وخولة : قال ابن التين : عند أهل اللغة والعربية ساكن الواو ، وكذلك رواه بعضهم . وقال الشيخ أبو الحسن : ما سمعت قط أحدا قرأه إلا بفتحها ، والمحدثون على ذلك . وقال الشيخ أبو عمران عكس ذلك ، واختلف فيه : هل هو من بني عامر بن لؤي صلبة أو مولاهم ؟ مات بمكة عند زوجته في حجة الوداع . قاله يزيد بن أبي حبيب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري : وهو من أفراده . كما قال ابن عبد البر : مات في الهدنة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فخرج سعد مختارا : لا لحج ولا لجهاد ; لأنه لم يفرض حجا .

                                                                                                                                                                                                                              وأما سعد بن أبي وقاص فإنه خرج حاجا ، ولو مات فيها لم يكن في معنى سعد ابن خولة الذي رثى له الشارع ; لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه ، ولا يقال له : بائس ، ولا يسمى : تاركا لدار هجرته ، وسيأتي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن من مات بمكة فلا يدفن بها " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 543 ] الثالث :

                                                                                                                                                                                                                              هذه الابنة اسمها : عائشة ، كما سيأتي في البخاري ، ثم عوفي سعد بعد ذلك وجاءه عدة أولاد ثمانية .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : في ألفاظه :

                                                                                                                                                                                                                              العيادة : الزيارة ، ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض ، وعام حجة الوداع هي السنة العاشرة من الهجرة ، وسميت : حجة الوداع ; لأنه ودعهم فيها ، وتسمى أيضا : البلاغ ; لأنه قال : "هل بلغت " ، وحجة الإسلام ; لأنها الحجة التي تتام فيها حج أهل الإسلام ليس فيها مشرك ، هذا قول الزهري .

                                                                                                                                                                                                                              قال سفيان بن عيينة : كان ذلك يوم فتح مكة ، حينئذ عاد - عليه السلام - سعدا . وهو من أفراده ، قال البيهقي : خالف سفيان الجماعة فقال : عام الفتح ، والصحيح : في حجة الوداع . والوجع : اسم لكل مرض .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو موسى : رويناه بضم الواو على ما لم يسم فاعله ، والذي في اللغة وجع على وزن علم ، وكذلك هو في رواية أخرى ، ومعنى [ ص: 544 ] اشتد بي : قوي ، وفي رواية : أشفيت منه على الموت . أي : قاربت ، ولا يقال : أشفى إلا في الشر بخلاف أشرف وقارب .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (ولا يرثني إلا ابنة ) . أي : من الولد وخواص الورثة ، وإلا فقد كان له عصبة . وقيل : معناه : لا يرثني من أصحاب الفروض سواها . وقيل غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فأتصدق -وفي نسخة : أفأتصدق- بثلثي مالي ؟ ) يحتمل أن يريد به منجزا ومعلقا بما بعد الموت . وفي رواية للبخاري تأتي : فأوصي . بدل : فأتصدق .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (بالشطر ) . أي : النصف . بدليل رواية البخاري الآتية : فأوصي بالنصف .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "الثلث والثلث كثير " ) يجوز في الثلث الأول نصبه ورفعه .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : " كثير " أو "كبير " أي : بالثاء المثلثة أو بالباء الموحدة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "والثلث كثير " ) ، قال الشافعي : يحتمل أن يكون معناه : كثير أي : (غير ) قليل ، وهذا أولى معانيه كما قال .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "أن تذر " ) بفتح الهمزة وكسرها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 545 ] والعالة : الفقراء ، جمع عائل . وقيل : العيل والعالة : الفاقة ، وقيل : العائل : الكثير العيال . وحكاه الكسائي ، وليس بالمعروف في اللغة كما قاله ابن التين .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى "يتكففون الناس " : يسألون الصدقة بأكفهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "لعلك أن تخلف " ) إلى آخره المراد بتخلفه طول عمره ، وكان كذلك ، عاش زيادة على أربعين سنة فانتفع به وضر به آخرون ، قتل الكفار وسبى وغنم ، وقيل : إن عبيد الله بن زياد أمر ابنه عمر على الجيش الذين لقوا الحسين فقتلوه ، حكاه ابن التين .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال : لما أمر سعد على العراق أتي بقوم ارتدوا فاستتابهم ، فتاب بعضهم وأصر بعضهم ، فقتلهم ، فانتفع به من تاب وتضرر به الآخرون .

                                                                                                                                                                                                                              وحكى الطحاوي هذا عن بكير بن الأشج ، عن أبيه عامر أنه سأله عن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، وأن المرتدين كانوا يسجعون سجع مسيلمة ، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف .

                                                                                                                                                                                                                              قال بعض العلماء من أهل المعرفة : (العل ) معناها الترجي ، إلا إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه ، فإن معناها : التحقيق ، ومعنى إمضاء هجرتهم : إتمامها لهم من غير إبطال ، فيرجعون إلى المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 546 ] ومعنى "ولا تردهم على أعقابهم " أي : بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية ، فيخيب قصدهم ويسوء حالهم ، ويقال لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه : رجع على عقبه وحار ، ومنه الحديث : "أعوذ بك من الحور بعد الكور " أي : من النقصان بعد الزيادة .

                                                                                                                                                                                                                              والبائس : الذي عليه أثر البؤس ، وهو الفقر والقلة . قال الأصيلي : البائس : الذي ناله البؤس ، وقد يكون بمعنى : مفعول كقوله : عيشة راضية أي : مرضية .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى : يرثي : يتوجع ويسوؤه ما فعل بنفسه ، وذلك أنها دار هجروها لله ، فأحب أن يكون محياهم ومماتهم بغيرها ; لئلا يكون ذلك عودا فيما تركوه لله ، وقد جرت السنة أن يحفظ على الميت شعار القرب كما قلنا في الشهيد والمحرم ، ولو كان نقل الميت من موضع إلى موضع جائزا لنقله إلى موضع هجرته ، وقد روى الطبراني في "معجمه الكبير " أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر إن مات سعد في مرضه هذا أن يخرج من مكة وأن يدفن في طريق المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مسند أحمد " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "يا عمرو (القاري ) : إن مات سعد بعدي فها هنا فادفنه نحو طريق المدينة " . وأشار بيده هكذا ، وقد أسلفنا أنه إنما رثى له ; لأنه مات ولم يهاجر ، وهو غلط ، بل [ ص: 547 ] أسلم وهاجر ، وهو بدري كما عده البخاري فيهم ، وشهد أيضا أحدا والخندق والحديبية ، وإنما رثى له ; لأنه هاجر ولم يصبر على هجرته حتى يموت في البلد الذي هاجر إليه ، ولكنه مات في البلد الذي هاجر منه لغير ضرورة ، ولهذا قال عمر : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك ; لأنه حرم على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذي هجره لله ; ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا " ، وكان عثمان وغيره لا يطوف طواف الوداع إلا ورواحلهم قد رحلت . وقيل : إنما مات بمكة في حجة الوداع ورثى له ; لأن من هاجر من بلده يكون له نور الهجرة من الأرض التي هاجر منها إلى الأرض التي هاجر إليها إلى يوم القيامة ، فحرم ذلك النور لما مات بمكة .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : في فوائده :

                                                                                                                                                                                                                              وقد وصلتها في "شرح العمدة " زيادة على عشرين ونذكرها هنا ملخصة .

                                                                                                                                                                                                                              فيه : استحباب عيادة المريض ، وعيادة الإمام أصحابه وأنها مستحبة في السفر كالحضر وأولى ، وجواز ذكر المريض ما يجده من شدة [ ص: 548 ] المرض لا في معرض السخط والشكوى ، بل لمداواة وعلاج أو دعاء صالح أو وصية ، أو استفتاء عن حاله ، ولا يكون ذلك قادحا في خيره وأجر مرضه ، وإباحة جمع المال . وفي رواية لمسلم : إن لي مالا كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                              واستحباب الصدقة لذوي الأموال ، ومراعاة الوارث في الوصية وتخصيص جواز الوصية بالثلث ، خلافا لأهل الظاهر ، وشذ من قال : إن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته . ومن قال : إنه إذا لم يكن له ورثة يضع جميع ماله حيث شاء ، وإليه ذهب إسحاق ، وحكي عن ابن مسعود . وذهب بعضهم إلى أنه ينقص عن الثلث ، وهو الأحسن في الرافعي و "الروضة " .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس : الثلث حيف ، والربع حيف . وقال الحسن : السدس أو الخمس أو الربع . وقال إسحاق : الربع ، إلا أن يكون في ماله شبهة فله استغراق الثلث . وقال الشافعي : إذا ترك ورثته أغنياء لم يكن له أن يستوعب الثلث ، وإذا لم يدعهم أغنياء اخترت له أن لا يستوعبه .

                                                                                                                                                                                                                              وأوصى أنس بمثل نصيب أحد ولده ، وأوصى عمر بالربع ، والصديق بالخمس ، وقال : رضيت لنفسي بما رضي الله لنفسه . يعني : خمس الغنيمة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 549 ] وفيه : أن الثلث في الوصايا في حد الكثرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلفت المالكية في مسائل ، ففي بعضها جعلوه داخلا في حد الكثرة بالوصية لقوله - عليه السلام - : "والثلث كثير " وفيه بحث ، وقد أجمع العلماء في الأعصار المتأخرة على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بما زاد على الثلث إلا بإجازته ، وشذ بعض السلف في ذلك ، وهو قول أهل الظاهر ، فمنعوها وإن أجازها الورثة ، وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث ، وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق ، وأحمد في رواية .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم عالة ، ومن هذا الوجه أخذ ترجيح الغني على الفقير . وحديث : "ثلاث كيات للذي خلف ثلاثة دنانير " لا بد من تأويله ، وأوله أبو حاتم بن حبان بأنه كان يسأل الناس إلحافا وتكثرا ، ومن هنا استحب النقص من الثلث .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الحث على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب ، وأن صلة [ ص: 550 ] القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد ، وأن الإخلاص شرط في الثواب والإنفاق في وجوه الخير ، وأن المباح بالنية يصير قربة ، فإن وضع اللقمة في فم الزوجة إنما يكون عادة عند ملاعبتها وتسلية من كره حالة يخالف ظاهرها الشرع ولا سبب له فيها ، وأن الإنسان قد يكون له مقاصد دينية فيقع في مكاره تمنعه منها فيخلص منها بالرجاء وسؤال الرب جل جلاله إتمام العمل على وجه لا يدخله نقص ، وفضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح ، وجواز تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن بالسنة ، وهو قول الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : معجزات ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله لسعد من طول عمره وفتح البلاد وانتفاع أقوام وضر آخرين ومنقبة ظاهرة لسعد ، وفضائل عديدة منها : مبادرته إلى الخيرات ، وكمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيم أمر الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر سعدا بالوصية للأقربين بعد أن أخبره أنه لا يرثه إلا ابنة ، ولو كانت آية الوصية للأقربين غير منسوخة لأمره به ، فدل على أنها لا تجب ، والذي عليه عامة العلماء أنها منسوخة . وقال الشعبي والنخعي : إنما كانت على وجه الندب ; لأن الشارع مات ولم يوص ، ودخل علي على مريض فأراد أن يوصي ، فنهاه ، وقال : الله تعالى يقول : إن ترك خيرا [البقرة : 180] وأنت لم تدع مالا فدع مالك لأهلك وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 551 ] وهذه خواتم نختمه بها :

                                                                                                                                                                                                                              الأولى : هذا الحديث في مسلم : إني خفت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها . فقال : "اللهم اشف سعدا " . ذكره ثلاثا ، وفيه : "إن صدقتك من مالك صدقة ، وإن نفقتك على عيالك صدقة ، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة " وللحاكم وقال : على شرط الشيخين ، فوضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ، ثم قال : "اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته " .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية : هذا الحديث رواه البخاري هنا من طريق مالك عن الزهري ، وأخرجه الأربعة من طريق ابن عيينة عن الزهري . قال الطحاوي : روى عن ابن عيينة هذا الحديث بما يقضي له على مالك .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : قال ابن عبد البر : وهو حديث اتفق أهل العلم على صحة سنده ، وجعله جمهور الفقهاء أصلا في مقدار الوصية ، وأنه لا يتجاوز بها الثلث ، إلا أن في بعض ألفاظه اختلافا عند نقلته ، فمن ذلك ابن عيينة قال فيه عن الزهري : عام الفتح . انفرد بذلك عن ابن شهاب فيما علمت ، وقد رويناه من طريق معمر وجماعات عددهم ، عن ابن شهاب : عام حجة الوداع .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المديني : الذين قالوا : حجة الوداع . أصوب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 552 ] رابعها : قال القرطبي : وقوله : ( "ورثتك " ) دلالة على أنه كان له ورثة غير الابنة المذكورة . قلت : ليس صريحا فيه .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : جاء في "الصحيح " : أخلف بعد أصحابي . أي : أخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين المنصرفين معك . قاله أبو عمر . قال : ويحتمل أن يكون لما سمع الشارع يقول : "إنك لن تنفق نفقة " وتنفق : فعل مستقبل ، أيقن أنه لا يموت من مرضه ذاك أو ظنه فاستفهمه ، هل يبقى بعد أصحابه ؟ فأجابه بضرب من قوله : "لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله " .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( "إنك لن تخلف فتعمل عملا . . " ) إلى آخره . وقال القرطبي : هذا الاستفهام إنما صدر من سعد مخافة المقام بمكة إلى الوفاة فيكون قادحا في هجرته ، كما جاء في بعض الروايات : خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها . فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك لا يكون وإن طال عمره . وقال القاضي عياض : حكم الهجرة باق بعد الفتح لهذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح ، فأما من هاجر بعده فلا ، وأبعد من قال : إن وجوب الهجرة واستدامتها قد ارتفع يوم الفتح ، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة ; لنصرته - صلى الله عليه وسلم - والأخذ [ ص: 553 ] عنه ، فلما مات ارتحل أكثرهم عنها ، وتأولوا بما تقدم ; لأن ذلك إنما كان مخافة نقص أجورهم ، وقد يجاب بأن خروجهم لأجل الجهاد وإظهار الدين .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة -شرفها الله- إذا كان لضرورة دون الاختيار ، وقال قوم : المهاجر بمكة يحبط هجرته كيفما كان .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة . وقال القرطبي : من نقض الهجرة خاف المهاجرون حيث تحرجوا من مقامهم بمكة -شرفها الله - في حجة الوداع ، وهذا هو الذي نقمه الحجاج على أبي ذر لما ترك المدينة ونزل الربذة وقال : تغربت يا أبا ذر ، فأجابه بأن قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في البدو . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( أبو ذر ) . صوابه سلمة بن الأكوع ، فإن أبا ذر مات قبل أن يولد الحجاج بدهر ، وعلى تقدير صحته فنزول الربذة لا يقدح ; لأنه لم يهاجر منها .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية