الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1241 [ ص: 575 ] 43 - باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنا بك لمحزونون "

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "تدمع العين ويحزن القلب " .

                                                                                                                                                                                                                              1303 - حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا قريش -هو : ابن حيان- عن ثابت ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين -وكان ظئرا لإبراهيم - عليه السلام -- فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله ، وشمه ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك ، وإبراهيم يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان . فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - : وأنت يا رسول الله ؟! فقال : "يا ابن عوف ، إنها رحمة " . ثم أتبعها بأخرى فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . رواه موسى ، عن سليمان بن المغيرة عن ثابت ، عن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . [ مسلم : 2315 - فتح: 3 \ 172]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وذكر فيه حديث قريش : -وهو ابن حيان- عن ثابت ، عن أنس قال : دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين -وكان ظئرا لإبراهيم - عليه السلام -- فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله . . الحديث ، إلى قوله : "وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . رواه موسى ، عن سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              أما نفس الرحمة فهو نفس حديث أنس ، وأما حديث ابن عمر المعلق فقد سلف مسندا في عيادة سعد بن عبادة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (رواه موسى . . إلى آخره ) أسنده مسلم ، عن شيبان بن فروخ [ ص: 576 ] وهدبة بن خالد كلاهما ، عن سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله ، ثم رواه من حديث ابن علية ، عن أيوب ، عن عمرو بن سعيد ، عن أنس ، وفي آخره : "إن إبراهيم ابني ، وإنه مات في الثدي ، وإن له لظئرين يكملان إرضاعه في الجنة " ولابن سعد عن البراء : "إنه صديق شهيد " وللترمذي من حديث جابر : فوضعه في حجره وبكى ، فقال له ابن عوف : أتبكي وقد نهيت عن البكاء ؟! قال : "لا ، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين " .

                                                                                                                                                                                                                              إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من أوجه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها :

                                                                                                                                                                                                                              حيان بمثناة تحت . والقين : الحداد . وقيل : كل صانع قين . حكاه ابن سيده . وقان الحديدة قينا : عملها . وقان الإناء يقينه قينا : أصلحه . والظئر : زوج المرضعة ، والمرضعة أيضا ظئر ، وأصله : عطف الناقة على غير ولدها ترضعه . والاسم : الظأر ، قاله صاحب "المطالع " . وعبارة ابن الجوزي : الظئر : المرضعة ، ولما كان زوجها يكفله سمي ظئرا . وقال ابن سيده : الظئر : العاطفة على ولد غيرها ، المرضعة من الناس والإبل ، الذكر والأنثى في ذلك سواء . وهو عند سيبويه اسم للجميع ، وغلط من قال في قوله : كان ظئرا لإبراهيم . أي :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 577 ] رضيعه ; لأن أبا سيف كان كالراب . وقوله في بعض طرقه : يكيد بنفسه

                                                                                                                                                                                                                              -هو بفتح الياء - أي : يجود بها ، من كاد يكيد . أي : قارب الموت .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها :

                                                                                                                                                                                                                              ولد إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان ، ولما ولد تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه ، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أم بردة بنت المنذر ، وزوجها البراء بن أوس ، وكنيتها أم سيف امرأة قين ، يقال أبو سيف ، واسمها خولة بنت المنذر .

                                                                                                                                                                                                                              ومات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر ، ذكره ابن سعد .

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن جرير : مات قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشهر يوم كسوف الشمس ، وله ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا . وقال ابن حزم : سنتان غير شهرين . وأغرب ما فيه من أبي داود : مات وله سبعون يوما .

                                                                                                                                                                                                                              وأول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون ثم هو ، رش على قبره ماء . وقال الزهري : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو عاش إبراهيم لوضعت [ ص: 578 ] الجزية عن كل قبطي " وعن مكحول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في إبراهيم : "لو عاش ما رق له خال " وهو ابن مارية القبطية ، وجميع ولده من خديجة غيره ، ومجموعهم ثمانية : القاسم ، وبه كان يكنى ، والطاهر ، والطيب -ويقال : إنه الطاهر- وإبراهيم ، وبناته : زينب زوج أبي العاص ، ورقية وأم كلثوم زوجتا عثمان وفاطمة زوج علي .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في الصلاة عليه فصححه ابن حزم ، وقال أحمد : منكر جدا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال السدي : سألت أنسا : أصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابنه إبراهيم ؟

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 579 ] قال : لا أدري . وروى عطاء بن عجلان عن أنس أنه كبر عليه أربعا ، وهو أفقه . أعني : عطاء . وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه أنه صلى ، وهي مرسلة ، فيجوز أن يكون اشتغل بالكسوف عن الصلاة أو المثبت تقدم .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها :

                                                                                                                                                                                                                              استدل بعضهم لمالك ومن قال بقوله أن اللبن للفحل حيث قال : وكان ظئرا لإبراهيم ، وهم سائر الفقهاء . وقال ابن عمر ، وابن الزبير ، وعائشة : لا يحرم . وكانت عائشة يدخل عليها من أرضعه أخواتها ولا يدخل من أرضعه نساء إخوتها .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها :

                                                                                                                                                                                                                              فيه جواز تقبيل من قارب الموت وشمه ، وذلك كالوداع والتشفي منه قبل فراقه .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها :

                                                                                                                                                                                                                              قد سلف فيما سلف من الأبواب بيان البكاء والحزن المباحين ، وهذا الحديث أبين شيء وقع في البكاء ، وهو يبين ما أشكل من المراد بالأحاديث المخالفة له ، وفيه ثلاثة أوجه جائزة : حزن القلب ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 580 ] والبكاء ، والقول الذي لا تحذير فيه ، وأن الممنوع النوح وما في معناه مما يفهم أنه لم يرض بقضاء الله ويتسخط له ، إذ الفطرة مجبولة على الحزن ، وقد قال الحسن البصري : العين لا يملكها أحد ، صبابة المرء بأخيه . وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة أنه - عليه السلام - كان في جنازة مع عمر فرأى امرأة تبكي فصاح عليها عمر ، فقال - عليه السلام - : "دعها يا عمر ، فإن العين دامعة ، والنفس مصابة ، والعهد قريب " فعذرها - صلى الله عليه وسلم - مع قرب العهد ; لأن بعده ربما يكون بلاء الثكل ، وفتور فورة الحزن .

                                                                                                                                                                                                                              فإذا كان الحزن على الميت رثاء له ورقة عليه ، ولم يكن سخطا ولا تشكيا ، فهو مباح كما سلف قبل هذا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنها رحمة " .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها :

                                                                                                                                                                                                                              فيه شدة إغراق النساء في الحزن ، وتجاوزهن الواجب فيه لنقصهن ، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه . وقال الحسن البصري في قوله تعالى : وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم : 21] أن المودة : الجماع . والرحمة : الولد ، ذكره ابن وهب .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية