الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1375 1444 - وقال حنظلة عن طاوس: "جنتان". وقال الليث: حدثني جعفر، عن ابن هرمز، سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جنتان". [انظر: 1443 - مسلم: 1021 - فتح: 3 \ 305]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر في حديث أبي هريرة من طريق ابن طاوس، عن أبيه، عنه، ومن طريق أبي الزناد: أن عبد الرحمن حدثه، أنه سمع (أبا هريرة) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين، عليهما جبتان من حديد .. " الحديث. تابعه الحسن بن مسلم، عن طاوس: في الجبتين.

                                                                                                                                                                                                                              وقال حنظلة، عن طاوس: "جنتان". بالنون، وقال الليث: حدثني جعفر، عن ابن هرمز، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جنتان".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              أما متابعة الحسن فقد أسندها في اللباس عن عبد الله بن محمد، عن [ ص: 347 ] أبي عامر، عن نافع، عنه . وأخرجها العدني في "مسنده" عن ابن جريج عن الحسن عن طاوس عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يوسعها فلا تتوسع" مرتين. ومتابعة حنظلة، وهو ابن أبي سفيان. ذكرها أيضا في اللباس معلقة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وقال الليث: حدثني جعفر) كذا ذكرها معلقة. وكذا ذكر أبو مسعود وخلف أنه علقه أيضا في الصلاة. وروى العدني محمد بن أبي عمر في "مسنده" عن سفيان عن أبي الزناد به. وأخرجه مسلم بألفاظ ، ومن حديث عمرو الناقد عن ابن عيينة: "مثل المنفق والمصدق كمثل رجل .. " الحديث، وفيه: "فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت عليه أو مرت، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت" .

                                                                                                                                                                                                                              قال عياض: إنه وهم، وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات: "مثل البخيل والمتصدق" والتقسيم آخر الحديث بين ذلك. وقد يحتمل أن تكون على وجهها، وفيها محذوف مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما، -وهو البخيل- حذف لدلالة المنفق والمتصدق عليه كقوله: سرابيل تقيكم الحر أي: والبرد. فحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه. ووقع في بعض الروايات: "والمصدق". وفي أخرى: "والمتصدق" ، وفي أخرى: حذف التاء وتشديد الصاد. وكلاهما صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 348 ] وقوله: "كمثل رجلين" وفي رواية مسلم: "كمثل رجل" بالإفراد.

                                                                                                                                                                                                                              وكأنه تغيير من بعض الرواة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "جبتان" روي كما سلف بالباء والنون. وفي رواية: "جبتان أو جنتان" وكلا الوصفين يصح أن يمثل به. والأفصح بالنون: وهو ما يتستر به الإنسان فيجنه، وكذا قال صاحب "المطالع" وغيره أن النون أصوب، وهو الدرع. يدل عليه قوله في الحديث "لزقت كل حلقة".

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ: "وأخذت كل حلقة موضعها" . وكذا قوله: "من حديد".

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "من ثديهما" قال ابن التين: كذا في رواية أبي الحسن.

                                                                                                                                                                                                                              وضبطه بعضهم بضم الثاء، ويصح أن يكون بنصبها. وعند أبي ذر "ثدييهما" ولا يكون إلا بنصب الثاء. قال ابن فارس: والثدي -بالفتح- للمرأة، والجمع الثدي، يذكر ويؤنث. وثندؤة الرجل كثدي المرأة، وهو مهموز إذا ضم أوله، فإذا فتح لم يهمز. ويقال: هو طرف الثدي . فانظر على هذا كيف قال: "ثديهما"، وهو قد قال: "كمثل رجلين؟ " وقال الجوهري: الثدي للمرأة والرجل، والجمع أثد وثدى على فعول، وثدى بكسر الثاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "إلى تراقيهما" الترقوة، قال الخليل: هي فعلوة وهو عظم وصل ما بين ثغرة النحر والعاتق. والتراقي جمع ترقوة. وهذا يشهد لرواية أبي الحسن أن ثديهما بالضم لتجانس اللفظ. وقد يكون قد [ ص: 349 ] جمع الثدي والترقوة. ولأنهن جمع; لأن في كل واحد منها ثديين، كالعينين، لا تقول في الرجلين: عيناهما حسنتان. إنما تقول: عيونهما. بخلاف أن يكون في كل واحد منهما شيء واحد. فهذا إذا ثنيت جاز لك ثلاثة أوجه: الإفراد، والجمع، والتثنية. ونعني بذلك الأصل الذي هما عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "سبغت" أو "وفرت" كذا بخط الدمياطي: "وفرت" وكذا هو في شرح ابن التين، وابن بطال ، وفي بعضها "مرت" بالميم.

                                                                                                                                                                                                                              قال النووي : وصوابه في مسلم: "مدت" بالدال بمعنى سبغت كما في الحديث الآخر: "انبسطت" لكنه قد يصح "مرت" على هذا المعنى. والسابغ: الكامل. وفي بعض نسخ البخاري : "مادت" بدال مخففة من ماد: إذا مال. ورواه بعضهم "مارت" أي: سالت عليه وانقلبت.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأزهري : معناه ترددت، وذهبت، وجاءت بكمالها. وسبغت أي امتدت وطالت. وعند ابن طريف: هو شيء طال من فوق إلى أسفل سبوغا، ألا ترى: سبغ الثوب، يسبغ: اتسع. غيره: سبغت النعمة: سترت. وضبطه الأصيلي بضم الباء، وهو شيء لا يعرف.

                                                                                                                                                                                                                              ولما ذكره ابن التين كما سلف شك -يعني الراوي- أيهما قال، ومعناهما واحد، فهو إذ أنفق طال ذلك اللباس. وحقيقة المعنى أن [ ص: 350 ] الجواد تطاوعه يده في (النفقة) إذا أعطى، وينمى ماله، ويستر بها من قرنه إلى قدمه. والبخيل تنقبض يده فدرعه عليه ثقل ووبال بالوقاية. وإليه أشير في قوله: يد الله مغلولة [المائدة: 64] فقال: بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "حتى تخفي بنانه" ورواه الخطابي: "حتى تجن بنانه" أي: تسترها. جن، وأجن بمعنى، وروي "تحز" -بحاء وزاي- وهو وهم. قال النووي: والصواب: "تجن" -بجيم ونون- أي تستره. ومنه رواية بعضهم "ثيابه" بثاء مثلثة، وهو وهم، والصواب "بنانه" بالنون، وهي رواية الجمهور كما في الحديث الآخر "أنامله" .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "ويعفو أثره" أي كما يعفي الثوب الذي يجر الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه، كذلك تذهب الصدقة خطاياه فتمحوها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله -في البخيل-: "لزقت كل حلقة مكانها" ويروى: لزمت أي: ضيقت عليه. ولزمت بجلده فهي تؤذيه بمعنى أنها تحمى عليه يوم القيامة، فيكوى بها. ولزق مثل لصق.

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي: معنى "تعفو أثره": تمحو أثر مشيه، تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، ويعود ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة له.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: معنى "تمحو أثره" أي: تذهب بخطاياه وتمحوها. وهذا مثل ضربه الشارع للبخيل والجواد. وذلك أن الدرع أول ما تلبس تقع على [ ص: 351 ] الصدور والثديين إلى أن يدخل اللابس يديه في كميه، فجعل مثل المنفق مثل من يلبس درعا سابغة، فاسترسلت عليه حتى سبغت جميع بدنه، وهو معنى قوله: "حتى تعفو أثره" أي: تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كرجل غلت يداه إلى عنقه، فلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه. وهو معنى "قلصت" أي: تضامت واجتمعت. والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره، والبخيل إذا حدث نفسه بها ضاق صدره، وانقبضت يده.

                                                                                                                                                                                                                              وقال المهلب: معناه أن الله تعالى ينمي مال المتصدق ويستره ببركته من قرنه إلى قدمه، وجميع عوراته في الدنيا، والأجر في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                              والبخيل ماله لا يمتد عليه، فلا يستر من عوراته شيئا حتى يبدو للناس منكشفا مفتضحا في الدنيا والآخرة، كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه لا تجاوز قلبه الذي يأمره بالامتثال .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية