الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1403 1472 - وحدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب، أن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى".

                                                                                                                                                                                                                              قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا. فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر [ ص: 483 ] المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي.
                                                                                                                                                                                                                              [2750، 3143، 6441 - مسلم: 1035 - فتح: 3 \ 335]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري: أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم .. الحديث. وفيه: "ومن يستعف يعفه الله".

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلا فيسأله، أعطاه أو منعه". الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث الزبير بن العوام مرفوعا مثله. وحديث حكيم بن حزام "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة .. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              هذه الأحاديث أخرجها مسلم خلا حديث (ابن الزبير) فهو من أفراد البخاري ، واستغرب الترمذي حديث أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث حكيم خرجه البخاري أيضا في الوصايا ، وسلف "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالكلام عليها من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 484 ] أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              "نفد" في الحديث الأول بكسر الفاء ثم دال مهملة أي: فرغ وفني. ذكره الجوهري .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله فيه: " (فلن أدخره عنكم" قال الترمذي : روي عن مالك : "فلن"، ويروى عنه: "فلم" أي: لن أحبسه عنكم، وقوله: قبله: (فقال: "ما يكون عندي من خير") بخط الدمياطي صوابه: "يكن" أي: من حيث الرواية.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "لأن يأخذ" كذا هنا، وفي "الموطإ" "ليأخذ" وعند الإسماعيلي من رواية قتيبة ومعن والتنيسي "ليأخذ" ثم قال معن والتنيسي: "لأن يأخذ".

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أن مدار هذه الأحاديث على كراهية المسألة، ولا شك أنها على ثلاثة أوجه: حرام، ومكروه، ومباح. فمن سأل وهو غني من زكاة، وأظهر من الفقر فوق ما هو به فهذا لا يحل له. ومن سأل من تطوع ولم يظهر من الفقر فوق ما هو به فهذا مكروه. والاحتطاب خير منه. والمباح: أن يسأل بالمعروف قريبا أو صديقا أو ليكافئ. أما السؤال عند الضرورة فواجب لإحياء النفس، وأدخله الداودي في المباح. وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا بأس به.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 485 ] رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "إن هذا المال خضرة حلوة" سلف معناه في باب: الصدقة على اليتامى. ومعنى "فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه": أي: بغير شدة ولا إلحاح ولا بمسكنة، وفي رواية "بطيب نفس" .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي: فيه احتمالان:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أنه عائد على الآخذ، يعني: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف نفس بورك فيه.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: فمن أخذه ممن يدفعه منشرحا يدفعه إليه طيب النفس من غير سؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع"; لأنه يأكل من سقم وآفة، فكلما أكل ازداد سقما ولا يجد شبعا فينجع فيه الطعام، ويزعم أهل الطب أن ذلك من علة السوداء، ويقال: إنها صفة دائه وأهل الطب يسمونها الشهوة الكلبة والكلبية لمن يأكل ولا يشبع قيل: إنه لا يبقي شيئا ولا يسد لها مسدا. وقيل: معنى بإشراف نفس أن المسئول يعطيه عن تكرر. وقيل: يريد به شدة حرص السائل وإشرافه على المسألة. ومعنى: "لم يبارك له فيه" أي إذا أتبع نفسه المسألة، ولم يصن وجهه فلم يبارك له فيما أخذ وأنفق.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              معنى "لا أرزأ أحدا بعدك" أي: لا آخذ من أحد شيئا; لأنه إذا أخذ [ ص: 486 ] من مال أحد فقد نقص ذلك من ماله وصارت كلمة فاشية. ولما ولي عمر ابن عبد العزيز، قدم عليه وفد العراق، فأمر لهم بعطاء، فقالوا: لا نرزؤك، وترك حكيم أخذ العطاء، وهو حق له; لأنه خشي أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتقى أن يكون مما يعطى، فترك ما يريبه لما لا يريبه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي بعض حديثه: ولا منك يا رسول الله؟ قال: "ولا مني" وإنما قال له ذلك لما كان وقع منه من الحرص والإشراف في المسألة ورأى أن قطع ذلك كله عن نفسه خير له; لئلا تشرف نفسه إلى شيء فيتجاوز به القصد.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه تشبيه الرغبة في المال، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده والحلو كذلك فاجتماعهما أشد.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أيضا إشارة إلى عدم بقائه; لأن الخضراوات لا تبقى ولا تراد للبقاء.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              في حديث أبي سعيد من الفقه: إعطاء السائل مرتين من مال واحد من الصدقة. قال ابن بطال : ومثله عندهم الوصايا، يجيزون لمن أوصي له بشيء إذا قبضه أن يعطى مع المساكين، وإن كان ذلك الشيء لا يخرجه عن حد المسكنة، وأبى ذلك ابن القاسم وطائفة من الكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أيضا ما كان - عليه السلام - من الكرم والسخاء والإيثار على نفسه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 487 ] وفيه: الاعتذار للسائل إذا لم يجد ما يعطيه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله، وأن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن، وكذلك الجزاء عليه غير مقدور، ولا محدود. قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر: 10].

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها:

                                                                                                                                                                                                                              في حديث أبي هريرة الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، وأن يمتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وإن ركب المشقة في ذلك، ولا يكون عيالا على الناس، ولا كلا، وذلك لما يدخل على السائل من الذل في سؤاله وفي الرد إذا رد خائبا، ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إن هو أعطى لكل سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليد العليا خير من اليد السفلى".

                                                                                                                                                                                                                              وكان مالك يرى ترك ما أعطي الرجل على جهة الصدقة أحب إليه من أخذه وإن لم يسأله.

                                                                                                                                                                                                                              عاشرها:

                                                                                                                                                                                                                              في حديث حكيم من الفقه أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار، وأن السائل إذا ألحف لا بأس برده، وموعظته، وأمره بالتعفف، وترك الحرص على (أخذه) ; كما فعل الشارع بحكيم فأنجح الله موعظته ومحا بها حرصه، فلم يرزأ أحدا بعده، والقناعة وطلب الكفاية والإجمال في الطلب مقرون بالبركة. وأن من طلبه بالشره والحرص فلم يأخذه من حقه لم يبارك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع، [ ص: 488 ] وفضل المال والغنى إذا أنفق في الطاعة عملا بقوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" وأن الإنسان لا يسأل شيئا إلا عند الحاجة; لأنه إذا كان يده السفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غيرها. وأن من كان له عند أحد حق من معاملة وغيرها، فإنه يجبره على أخذه إذا أبى. وإن كان مما لا يستحقه إلا ببسط اليد إليه فلا يجبر على أخذه. وإنما أشهد عمر على إباء حكيم من أخذ ماله في بيت المال; لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه، وأنه لا يستحق أحد من بيت المال شيئا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وأما قبل ذلك فليس مستحقا له، ولو كان مستحقا له لقضى عمر على حكيم بأخذه، وعلى ذلك يدل قوله تعالى حين ذكر قسم الصدقات وفي أي الأصناف تقسم كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه آية [الحشر: 7] فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره وإنما قال العلماء في إثبات الحقوق في بيت المال تشددا على غير المرضي من السلاطين; ليغلقوا باب الامتداد إلى أموال المسلمين والتسبب إليها بالباطل. ويدل على ذلك فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنه يقطع ، ومن زنى بجارية من الفيء أنه يحد، ولو استحق في بيت المال أو في الفيء شيئا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له ذلك لكانت شبهة يدرأ عنه الحد بها. وجمهور الأمة على أن للمسلمين حقا في بيت المال، والفيء يقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتي ذلك في الجهاد إن شاء الله ذلك وقدره .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية