الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1485 1572 - وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري: حدثنا أبو معشر، حدثنا عثمان بن غياث، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن متعة الحج، فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي". فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: "من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا، وعلينا الهدي كما قال الله تعالى: فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [البقرة: 196] إلى أمصاركم. الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [البقرة: 196] وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث: الجماع، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء. [فتح: 3 \ 433]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              أصل حاضري: حاضرين، سقطت النون للإضافة، والياء سقطت وصلا; لسكونها، وسكون اللام في "المسجد"، وإذا وقعت عند الاضطرار إليه فأثبت الياء.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال البخاري: وقال أبو كامل البصري فضيل بن حسين، ثنا أبو معشر، ثنا عثمان بن غياث، عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج .. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 266 ] وهو من أفراده، وقد وصله الإسماعيلي فقال: ثنا القاسم بن زكريا المطرز، ثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو كامل، ثنا أبو معشر البراء، ثنا عثمان بن سعيد، عن عكرمة .. الحديث. وقال: هكذا قال القاسم: عثمان بن سعيد. وكذا رواه أبو نعيم الحافظ عن أبي أحمد، ثنا القاسم المطرز به. وقال: ذكره البخاري بلا رواية عن أبي كامل، وقال أبو كامل: عثمان بن غياث، وقال المطرز: ابن سعيد. وقال أبو مسعود الدمشقي: هذا حديث (غريب) ، ولم أره عند أحد إلا عند مسلم بن الحجاج، ومسلم لم يذكره في "صحيحه" من أجل عكرمة، وعندي أن البخاري أخذه عن مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ويجوز أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل بغير واسطة، فإنه غالبا يستعمل مثل ذلك فيما أخذه عرضا أو مناولة، وهما صحيحان عند جماعة، يجب العمل بهما .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 267 ] وقوله: (فلما قدمنا مكة قال - عليه السلام -: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة").

                                                                                                                                                                                                                              يريد قرب مكة، وهو سرف، كما سلف، وبين في هذا الحديث أنهم لما حلوا أتوا النساء، ولبسوا الثياب.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في حاضري المسجد من هم؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم ، وبه قال داود. وذهب طائفة إلى أنهم أهل مكة بعينها. روي هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرحمن الأعرج ، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكة وذي طوى، وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل: قديد وعسفان، ومر الظهران فعليهم الدم .

                                                                                                                                                                                                                              وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة ، وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام، وأما أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق .

                                                                                                                                                                                                                              روي هذا عن عطاء ، وبه قال الشافعي بالعراق، وقال الشافعي وأحمد: من كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة، فهو من حاضري المسجد الحرام . وعند الشافعي ومالك وأحمد [ ص: 268 ] وداود، أن المكي لا يكره له التمتع ولا القران; فإن تمتع لم يلزمه دم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: يكرهان له، فإن خالف فعليه دم جبرا، وهما في حق الآفقي مستحبان، ويلزمه الدم شكرا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: وقول

                                                                                                                                                                                                                              ابن عباس، وإباحته للناس غير أهل مكة أولى بظاهر الآية، وقال ابن عمر والحسن وطاوس: ليس لأهل مكة تمتع. حكاه ابن المنذر.

                                                                                                                                                                                                                              وجه قول أبي حنيفة أنهم كأهل مكة في عدم وجوب الإحرام عليهم.

                                                                                                                                                                                                                              وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أقبل من مكة، حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع، فدخل مكة حلالا .

                                                                                                                                                                                                                              فدل على أن أهل قديد كأهل مكة، وقد روي عن ابن عباس خلاف هذا، روى عنه عطاء أنه كان يقول: لا يدخل أحد مكة إلا محرما.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس: لا عمرة على المكي إلا أن يخرج من الحرم، فلا يدخله إلا حراما، وإن خرج قريبا من مكة .

                                                                                                                                                                                                                              فهذا ابن عباس قد منع الناس جميعا من دخول مكة بغير إحرام، فدل هذا أن من كان من غير أهل مكة فهو عنده مخالف لحكم أهل [ ص: 269 ] مكة، يوضحه قوله - عليه السلام -: "إن الله حرم مكة" . أفلا ترى أنه قصد بالحرمة إلى مكة دون ما سواها، فدل ذلك أن سائر الناس سوى أهلها في حرمة دخولهم إياها سواء، فثبت بذلك قول ابن عباس، وفي ثبوت ذلك ما يجب به أن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه. ومن الحجة لمالك: أنهم أهل القرية التي فيها المسجد، وليس أهل الحرم كذلك; لأنه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكة إذا أرادوا سفرا أن يقصروا حتى يخرجوا عن الحرم كله، فلما جاز لهم القصر إذا خرجوا عن بيوت مكة، دل ذلك على أن حاضري المسجد هم أهل مكة دون الحرم. وأما قول من قال: من كان أهله دون المواقيت، فإن المواقيت ليس من هذا الباب في شيء; لأنها لم تجعل للناس; لأنها حاضرة المسجد الحرام، ألا ترى أن بعض المواقيت بينها وبين مكة مسيرة ثمان ليال، وبعضها ليلتين، فيكون من كان دون ذي الحليفة حاضري المسجد الحرام، وبينه وبين مكة ثمان ليال، ومن كان منزله من وراء قرن بما يلي نجدا لا يكون من حاضريه، وإنما بينه وبينها مسيرة ليلتين وبعض أخرى، وإنما الحاضر للشيء من كان معه، ويجعل من هو أبعد حاضرا، ومن هو أقرب ليس بحاضر. وأيضا فقوله تعالى: هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام [الفتح: 25] دال أنه المسجد الحرام بعينه، والصد إنما وقع عنه وعن البيت، فأما الحرم فلم يكن ممنوعا منه; لأن الحديبية تلي الحرم، وهذا قاطع، قاله طاوس ومجاهد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 270 ] وأما قول ابن عباس في التمتع: فإن الله أنزله في كتابه وسنه نبيه، وأباحه للناس، غير أهل مكة، فإن مذهبه أن أهل مكة لا متعة لهم، وذلك -والله أعلم- لأن العمرة لا بد في الإحرام بها الخروج إلى الحل، ومن كان من أهل مكة فهي داره لا يمكنه الخروج عنها، وهي ميقاته للحج، وقد صرح بذلك ابن عباس فقال: يا أهل مكة، لا متعة لكم، إنما يجعل أحدكم بينه وبين مكة بطنا واحدا ويهل . وهذا مذهب أبي حنيفة، وأصحابه قالوا: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران، فإن فعلوا فعليهم الدم، كما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وأوجب ابن الماجشون الدم للقران دون التمتع ، واعتل بأن القارن قارن من حيثما حج، والمتمتع إنما هو المعتمر من بلده في أشهر الحج، المقيم بمكة حتى يحج، ومن كان من أهلها، فهي داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن وهو خطأ; لأنه إذا أجاز التمتع لأهل مكة فقد أجاز لهم القران، إذ لا فرق بينهما، واحتج أبو حنيفة بأن الاستثناء عنده في الآية راجع إلى الجملة، لا إلى الدم، قال: ولو رجع إلى الدم لقال ذلك على من لم يكن أهله. وقول القائل: لفلان كذا، يفيد نفي الإيجاب عليه، ولهذا لا يقال له الصلاة والصوم، وإنما يقال عليه الصلاة والصوم. واحتج لمالك بقوله تعالى: فمن تمتع [البقرة: 196] لفظه يقتضي إباحة التمتع، ثم علق عليه حكما وهو الهدي، ثم استثنى في آخرها أهل مكة، والاستثناء إذا وقع بعد فعل علق عليه [ ص: 271 ] حكم انصرف إلى الحكم المعلق على الفعل، لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكة وغيرهم في إباحة التمتع الذي هو الفعل سواء، والفرق بينهم في الاستثناء يعود إلى الدم; لأنه الحكم المعلق على التمتع، وهذا بمنزلة قوله - عليه السلام - "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل منزله فهو آمن" فلو وصله بقوله ذلك لمن لم يكن من أهل القينتين، أو لغير ابن خطل، لم يكن ذلك الاستثناء عائدا إلا إلى الأمر، لا إلى الدخول، ولا يكون سائر الناس ممنوعين من دخول منازلهم، ومنزل أبي سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلهم، إلا من استثنى.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [البقرة: 196] لو تجرد من تمامه لم يعد، كقولك: زيد. لا يفيد بانفراده حتى تخبر عنه بقائم أو قاعد أو غيره، فكذلك قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج لا يفيد شيئا حتى تخبر عن حكمه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله فما استيسر من الهدي [البقرة: 196] هو الحكم الذي به تتم الفائدة، والفوائد إنما هي في الأحكام المعلقة على أفعال العباد، لا على أسمائهم، ومثله فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس معناه: فإنه لم يسجد، فلم تكن الفائدة في الاستثناء راجعة إلا إلى نفي السجود الذي به يتم الكلام، وإنما أوجب الله الدم على المتمتع غير المكي; لأنه كان عليه أن يأتي محرما بالحج من داره في سفره، والعمرة في سفر ثان، فلما تمتع بإسقاط أحد السفرين، أوجب الله عليه الهدي، فكذلك القارن هو في معناه لإسقاط أحد السفرين، ودلت الآية على أن أهل مكة بخلاف هذا المعنى; لأن إهلالهم بالحج خاصة منمكة، ولا خروج [ ص: 272 ] لهم إلى الحل للإهلال إلا بالعمرة خاصة، فإذا فعلوا ذلك، لم يسقطوا سفرا لزمهم، فلا دم عليهم، ففارقوا سائر أهل الآفاق في هذا، وقد أسلفنا اختلافهم فيمن أحرم من مكة بالعمرة ولم يخرج إلى الحل في باب مهل أهل مكة للحج والعمرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: وسبعة إذا رجعتم [البقرة: 196]: إلى أمصاركم. هو أصح أقوال الشافعي فيه، أن المراد بالرجوع: الرجوع إلى أهله، كما سيأتي مصرحا به في باب: من ساق البدن ، وثانيها: الأخذ فيه، وثالثها: من منى إلى مكة، ورابعها: الفراغ من أعمال الحج، والثلاثة تكون في الحج، فيستحب الإحرام بالحج في السادس; لتقع الثلاثة في الحج. والثامن الأولى للحاج عدم صومه، واستحب مالك وأبو حنيفة الإهلال من المسجد لهلال ذي الحجة. وعند أبي حنيفة: الأفضل أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة; رجاء أن يقدر على الهدي الذي هو الأصل، وعنده: إن صام السبعة بمكة بعد فراغه من الحج جاز إذا مضت أيام التشريق ، وفي "شرح الهداية": المستحب في السبعة أن يكون صومها بعد رجوعه إلى أهله، إذ جواز ذلك مجمع عليه ، ويجوز إذا رجع إلى مكة بعد أيام التشريق في مكة، وفي الطريق، وهو محكي عن مجاهد وعطاء ، وهو قول، وجوزه أيضا في أيام التشريق، وهو قول ابن عمر، [ ص: 273 ] وعائشة ، والأوزاعي، والزهري، والشافعي في القديم، وهو المختار في حق فاقد الهدي، ولم يجوزه علي للنهي عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال إسحاق: يصومها في الطريق ، فإن فاته الثلاثة في الحج لم يجزه عند أبي حنيفة إلا الدم، روي ذلك عن علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وعطاء ، وجوز صومها بعد أيام التشريق حماد، والثوري، والأظهر من أقوال الشافعي: أنه يفرق بينها وبين السبعة، بقدر مسافة الطريق .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية