الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              144 [ ص: 101 ] باب لا تستقبل القبله بغائط أو بول إلا عند البناء جدار أو نحوه

                                                                                                                                                                                                                              144 - حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبي ذئب قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا". [394 - مسلم: 264 - فتح: 1 \ 245]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا آدم، ثنا ابن أبي ذئب، ثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا".

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: في التعريف برواته.

                                                                                                                                                                                                                              أما أبو أيوب فهو خالد (ع) بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم الأنصاري النجاري، شهد بدرا والمشاهد، والعقبة الثانية، وعليه نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة شهرا، وهو من نجباء الصحابة، له مائة وخمسون حديثا، اتفقا منها على سبعة.

                                                                                                                                                                                                                              وانفرد البخاري بحديث: وفد علي ابن عباس البصرة فقال: إني أخرج عن مسكني كما خرجت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه ما أغلق عليه، ولما قفل أعطاه عشرين ألفا وأربعين عبدا، ومناقبه جمة.

                                                                                                                                                                                                                              ولما مرض قال: احملوني فإذا صففتم العدو فارموني تحت [ ص: 102 ] أرجلكم ; فقبره مع سور القسطنطينة يتبرك به ويستشفى. مات سنة [ ص: 103 ] خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة: أبو أيوب في الصحابة ثلاثة: هذا أجلهم، وثانيهم: يماني له رواية، وثالثهم: روى عن علي بن مسهر، عن الأوزاعي، عن أبيه، عن أبي أيوب، فلعله الأول.

                                                                                                                                                                                                                              ثانية: (أيوب) يشتبه بـ(أثوب) -بالمثلثة- ابن عتبة، صحابي، ذكره ابن قانع والمديني. والحارث بن أثوب تابعي، كذا قاله عبد الغني، والصواب: ثوب بوزن صوغ، وأثوب بن أزهر زوج قيلة بنت مخرمة الصحابية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 104 ] وأما (عطاء) فهو أبو يزيد عطاء (ع) بن يزيد الليثي ثم الجندعي المديني ويقال: الشامي التابعي، سمع أبا أيوب وغيره. وعنه الزهري وغيره، مات سنة سبع، وقيل: خمس ومائة عن اثنتين وثمانين سنة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما (الزهري) فهو الإمام محمد بن مسلم، سلف قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما (ابن أبي ذئب) فهو أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، هشام المدني العامري، روى عن نافع وخلق. وعنه ابن المبارك وخلق، وكان كبير الشأن. ولد سنة ثمانين، ومات بالكوفة سنة تسع وخمسين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما (آدم) فقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              [هذا الإسناد على شرط الستة إلا الأخير؛ فإنه من رجال البخاري وباقي السنن خلا أبي داود.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية] :

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد كلهم مدنيون، وقد دخل (آدم) إليها أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 105 ] الوجه الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              الحديث ليس مطابقا لما بوب له، بل راويه فهم عموم النهي في الصحراء والبنيان؛ فإنه قال: قدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو القبلة فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل. ذكره في باب: قبلة أهل المدينة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              لا جرم تعقبه الإسماعيلي فقال: ليس في الحديث الذي أورده دلالة على الاستثناء الذي ذكره، إلا أن يريد أن في نفس الخبر الذهاب إلى الغائط، وذلك في التبرز في الصحراء.

                                                                                                                                                                                                                              وأجاب ابن بطال عن ذلك فقال: هذا الاستثناء ليس مأخوذا من الحديث ولكن لما علم في حديث ابن عمر استثناء البيوت بوب عليه; لأن حديثه - صلى الله عليه وسلم - كله كأنه شيء واحد، وإن اختلف طرقه، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة وإن كثر. وتبعه ابن التين في "شرحه" وزاد: فإن البخاري عقبه به، وهو جواب حسن.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              (الغائط): المكان المطمئن من الأرض كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة، ثم استعمل للخارج وغلب على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية، لكن لا يقصد به إلا الخارج من الدبر فقط؛ لتفرقته في الحديث الآخر بينهما في قوله: "لغائط (أو) بول"، وقد يقصد به ما يخرج من القبل أيضا، فإن الحكم عام.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 106 ] الوجه الرابع: في أحكامه:

                                                                                                                                                                                                                              وهو دال على المنع من استقبال القبلة واستدبارها.

                                                                                                                                                                                                                              وحاصل ما للعلماء في ذلك أربعة مذاهب:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: المنع المطلق في البنيان والصحراء، وهو قول أبي أيوب الأنصاري راوي الحديث وجماعة منهم: أحمد في رواية، وحكاه ابن التين في "شرحه" عن أبي حنيفة، وهؤلاء حملوا النهي على العموم، وجعلوا العلة فيه التعظيم والاحترام للقبلة؛ فإن موضعها الصلاة والدعاء ونحوهما من أمور البر والخير، وهو معنى مناسب ورد النهي على وفقه فيكون علة له.

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي في حديث ضعيف التعليل به، فلا فرق فيه بين البنيان والصحراء، ولو كان الحائل كافيا في جوازه في البنيان لكان في الصحراء من الجبال والأودية ما هو أكفى، وورد من قول الشعبي أنه علل ذلك بأن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم وينبني على العلتين ما إذا كان بالصحراء وتستر بشيء.

                                                                                                                                                                                                                              المذهب الثاني: أنهما جائزان مطلقا، وهو قول عروة بن الزبير، وربيعة الرأي، وداود. ورأى هؤلاء أن حديث أبي أيوب منسوخ، وزعموا أن ناسخه حديث مجاهد، عن جابر. نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام [ ص: 107 ] يستقبلها، حسنه الترمذي مع الغرابة، وصححه البخاري وغيره،

                                                                                                                                                                                                                              واستدلالهم بالنسخ ضعيف; لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع [ ص: 108 ] وهو ممكن كما ستعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              المذهب الثالث: أنه لا يجوز الاستقبال فيهما، ويجوز الاستدبار فيهما، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، ويرده حديث أبي أيوب هذا.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: وهو قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان، وهو مروي عن العباس وابن عمر، ورأى هؤلاء الجمع بين الأحاديث ورد النسخ، إذ لا يصار إليه إلا بالتصريح به أو بمعرفة تاريخه، والجمع ولو من وجه أولى إذ في تركه إلغاء للبعض، واستدلوا بحديث ابن عمر الآتي على الأثر وبأحاديث أخر، ولما في المنع في البنيان من المشقة والتكلف لترك القبلة بخلاف الصحراء، ويتعلق بالمسألة فروع محل الخوض فيها كتب الفروع وقد [ ص: 109 ] بسطناها فيها، فلا حاجة إلى التطويل بها; لئلا نخرج عن موضوع الشرح.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "شرقوا أو غربوا" هو خطاب لأهل المدينة ومن في معناهم كأهل الشام واليمن وغيرهم ممن قبلته على هذا السمت، فأما من كانت قبلته من جهة المشرق أو المغرب، فإنه يتيامن أو يتشاءم.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: واحتج قوم في أمر القبلة بهذا الحديث وقالوا: إن ما بين المشرق والمغرب مما يحاذي الكعبة أنه يصلي (إليه) من جهتين ولا يشرق ولا يغرب، وقد أسلفنا أن الحديث ليس مطلقا بل محمول على قوم، واستنبط ابن التين من الحديث منع استقبال النيرين في حالة الغائط والبول وقال: إن الحديث يدل له. وكأنه قاسه على استقبال القبلة وليس الإلحاق بظاهر.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية