الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2590 2741 - حدثنا عمرو بن زرارة ، أخبرنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن إبراهيم عن الأسود قال : ذكروا عند عائشة أن عليا رضي الله عنهما كان وصيا . فقالت : متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري -أو قالت : حجري- فدعا بالطست ، فلقد انخنث في حجري ، فما شعرت أنه قد مات ، فمتى أوصى إليه ؟ [4459 - مسلم: 1636 - فتح: 5 \ 356]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق أربعة أحاديث :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : حديث ابن عمر -تابعه محمد بن مسلم عن عمرو ، عن ابن عمر- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين ، إلا ووصيته مكتوبة عنده" . من طريق مالك عن نافع ، عنه .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : حديث عمرو بن الحارث ، ختن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أخي جويرية بنت الحارث قال : ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا ، إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : حديث طلحة بن مصرف : سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى ؟ فقال : لا . فقلت : كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية ؟ قال : أوصى بكتاب الله .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : حديث عائشة ذكر عندها أن عليا كان وصيا . فقالت : متى

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 171 ] أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري -أو قالت : حجري- فدعا بالطست ، فلقد انخنث في حجري ، فما شعرت أنه قد مات ، فمتى أوصى إليه ؟


                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              (الوصايا ) : جمع وصية ، أصلها من وصيت الشيء أصيه إذا وصلته ، فكأنه وصل ما بعد مماته بحياته . وفي "الباهر" لابن عديس : الوصية و (الوصاية ) .

                                                                                                                                                                                                                              والوصاية -بفتح الواو وكسرها : الاسم من أوصى الرجل ووصاه ، وحكاهما الجوهري أيضا ، أعني : الوصايا بفتح الواو وكسرها .

                                                                                                                                                                                                                              والحديث المعلق أسنده بعد .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ( كتب ) : فرض أو ندب ، المعنى : إذا كنتم في حال تخافون منها الموت فأوصوا .

                                                                                                                                                                                                                              و (الخير ) : المال الكثير ، قالته عائشة وجماعة .

                                                                                                                                                                                                                              وعن علي أنه أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وتوقف في صحته عنه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 172 ] وعن عائشة : من له أربعمائة دينار وله عدة من الولد ، قالت : باقي هذا فضل عن ولده .

                                                                                                                                                                                                                              ( حقا على المتقين ) : قال : كانت الوصية للولد والوالدين والأقربين فنسخ الله من ذلك ما أحب إلى من يرث ، وقال الحسن وجماعة : هي واجبة للقرابة (غير ) الوارثين ، وقيل : المراد بها من لا يرث من الأبوين كالكافر والعبد . وقال الشعبي والنخعي : إنما كانت للندب . قال طاوس : إن أوصى لأجنبي وترك قريبه محتاجا نزعت منه وردت على القريب . وقال الحسن وإسحاق : إذا أوصى لغير وارثه بالثلث جاز له ثلث المال ، وأخذ أقاربه الثلثين .

                                                                                                                                                                                                                              (والجنف ) : الميل ، كما ذكره البخاري ، وهو ما ذكره أكثرهم كما قاله ابن التين ، وقال الضحاك : الخطأ والإثم العمد ، وقال طاوس : هو الرجل يوصي لولد ابنته . يريد ابنته .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 173 ] قال ابن بطال : وذلك مردود بإجماع . فإن لم يرد فوصيته من الثلث ، ذكره في باب : الصدقة عند الموت .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى غير متجانف : أي غير مائل إلى حرام ، كما ذكره البخاري حيث قال : ( متجانف ) : مائل . وهو ما ذكره الطبري عن عطاء ، وقال أبو عبيدة : جورا عن الحق وعدولا .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك :

                                                                                                                                                                                                                              فحديث ابن عمر أخرجه عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن نافع عنه كما سلف به ، ورواه عبد الله بن نمير وعبدة بن سليمان ، عن عبيد الله ، عن نافع ، كما رواه مالك ، أفاده ابن حزم قال : ورواه (يونس ) بن يزيد عن نافع أيضا كذلك ، وكذا رواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، [عن ابن شهاب] عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 174 ] وأخرجه مسلم من حديث أيوب عن نافع : "ما حق امرئ يوصي بالوصية وله مال يوصي فيه ; تأتي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده" ومن حديث يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيد الله ، عن نافع أيضا ، وفي لفظ : "يبيت ثلاث ليال" وروى ابن عون عن نافع : "لا يحل لامرئ مسلم له مال "

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر : لم يتابع ابن عون على هذه اللفظة . ورواه سليمان بن موسى عن نافع ، وعبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع : "وعنده مال " قال أبو عمر : وهذا أولى عندي من قول من قال : شيء ; لأن الشيء قليل المال وكثيره ، وقد أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا الشيء اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : في هذا شيء ستعرفه قريبا عن الزهري ، وذكر أبو مسعود في "تعليقه" أن مسلما عنده : "يبيت ليلة" ولم (يؤخذ ) فيه كما نبه عليه ابن الجوزي وغيره ، قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي .

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا بعد أن تعلم أن حديث ابن عمر ، فيه الحض على الوصية ; خشية فجأة الموت ، والإنسان على غير عدة ونسيان- فقالت طائفة : الوصية واجبة على ظاهر الآية .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 175 ] قال الزهري : جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر .

                                                                                                                                                                                                                              قيل لأبي مجلز : على كل عشر وصية ؟ قال : كل من ترك خيرا .

                                                                                                                                                                                                                              وبهذا قال ابن حزم ; تمسكا بحديث مالك . قال : وروينا من طريق عبد الرزاق ، عن الحسن بن عبيد الله . قال : كان طلحة بن عبيد الله والزبير يشددان في الوصية ، وهو قول عبد الله بن أبي أوفى ، وطلحة بن مصرف ، والشعبي ، وطاوس ، وغيرهم . قال : وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا . وقالت طائفة : ليست واجبة ، كان الموصي موسرا أو فقيرا ، هو قول النخعي والشعبي ، وهو قول مالك والثوري والشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              قال : -أعني الشافعي - قوله : "ما حق امرئ مسلم" يحتمل ما الحزم ، ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض . واحتجوا برواية يحيى بن سعيد التي فيها : يريد أن يوصي فيه . فرد الأمر إلى إرادته ، والشارع لم يوص ، ورووا أن ابن عمر لم يوص ، وهو

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 176 ] الراوي ، وأن حاطب بن أبي بلتعة بحضرة عمر لم يوص ، وأن ابن عباس قال فيمن ترك ثمانمائة درهم : ليس فيها وصية . وأن عليا نهى من لم يترك إلا من السبعمائة إلى التسعمائة عن الوصية ، وأن عائشة قالت فيمن ترك أربعمائة دينار : ما في هذا فضل عن ولده . وعن النخعي : ليست الوصية فرضا ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ، أما من زاد -يريد : مالكا ومن أسلفناه- رووه بغير هذا اللفظ ، لكن بلفظ الإيجاب فقط . وأما قولهم : إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوص . فقد كانت تقدمت وصيته بقوله الثابت يقينا : "إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة " وهذه وصية صحيحة بلا شك ; لأنه أوصى بصدقة كل ما يترك إذا مات ، وإنما صح الأثر بنفي الوصية التي تدعيها الرافضة إلى علي فقط .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما رووا أن ابن عمر لم يوص فباطل ; لأن هذا إنما روي من طريق أشهل بن حاتم ، وهو ضعيف ، ومن طريق ابن لهيعة ، وهو لا شيء ، والثابت عنه ما أسلفناه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما خبر حاطب وعمر فمن رواية ابن لهيعة ، وأما خبر ابن عباس ففيه ليث بن أبي سليم ، وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث علي فإنه حد القليل ما بين السبعمائة إلى التسعمائة ، وهم لا يقولون بهذا ، وليس في حديث أم المؤمنين بيان ما ادعوا ، بل لو صح كل ذلك ما كانت فيه حجة ; لأنهم قد عارضهم صحابة ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 177 ] كما أوردنا ، وإذا وقع التنازع لم يكن قول طائفة أولى من قول أخرى ، والفرض حينئذ هو الرجوع إلى الكتاب والسنة ، وكلاهما يوجب فرض الوصية .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : [و] ذكر النخعي لما نقل أن طلحة والزبير كانا يشددان في الوصية ، فقال : ما كان عليهما أن لا يفعلا ، توفي رسول الله وما أوصى ، وأوصى أبو بكر ، فإن أوصى فحسن ، وإن لم يوص فلا بأس .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن العربي : السلف الأول لا نعلم أحدا قال بوجوبها ، وأما الحسن بن عبيد الله فلم يسمع أحدا من الصحابة ولا سيما هذين القديمين الوفاة . وأظنه استنبط من حديث ابن أبي أوفى في الباب ، وقول طلحة له : إن هذا مذهبهما والأمر فمحمول على الندب ، وقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - عدة وصايا منها ما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 178 ] ومنها : "لا يبقين دينان بجزيرة العرب" ، وإجازة الوفد ، و"الصلاة وما ملكت أيمانكم" . وحديث عمرو بن الحارث السالف ، وعند ابن إسحاق : أوصى عند موته لجماعة من قبائل العرب بجداد أوساق من تمر سهمه بخيبر ، وأوصى بالأنصار خيرا ، نعم مات ودرعه مرهونة ولم يوص بفكها .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما ذكره ابن حزم عن طاوس ، فذكر سعيد بن منصور في "سننه" عن ابن عيينة ، عن ابن طاوس عنه أنه كان يقول : إن الوصية كانت قبل الميراث ، فلما نزل الميراث نسخ من يرث وبقيت الوصية لمن لا يرث ، فهي ثابتة ، فمن أوصى لغير ذي قرابة لم تجز وصيته .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : فهذا كما ترى ، قال : ثابتة . ولم يقل : واجبة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 179 ] وقال الشافعي : لما احتملت الآية ما ذهب إليه طاوس ، وجب عندنا على أهل العلم طلب الدلالة على خلاف قوله أو موافقته ، فوجدنا الشارع حكم في ستة مملوكين ، كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم ، فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأعتق اثنين وأرق أربعة ، فكانت دلالة السنة في هذا بينة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أنزل عتقهم في المرض وصية ، والذي أعتقهم رجل من العرب ، والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبين العجم ، فأجاز - صلى الله عليه وسلم - الوصية ، فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وأسند أبو داود في "ناسخه ومنسوخه" عن ابن عباس : أنها منسوخة بآية الميراث . قلت : وقاله ابن عمر أيضا ، وهو قول مالك والشافعي وجماعة . ونقل العدوي البصري في "ناسخه" عن بعض أهل العلم نسخ الوالدين وثبت الأقربون ، وهو قول الحسن وطاوس وجماعة ، وليس العمل عليه ، وقال بعضهم : والعمل به ، نسخها : يوصيكم الله [النساء : 11] للرجال نصيب [النساء : 7] وهو قول ابن عباس وجماعة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 180 ] وقال النحاس في "ناسخه" : في هذه الآية خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                              فمن قال : القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة قال : نسخها : "لا وصية لوارث" ومن منع قال : نسخها الفرائض .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس : نسخها : للرجال نصيب [النساء : 7] . وقال مجاهد : يوصيكم الله .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن : نسخت للوالدين وثبتت للأقربين الذين لا يرثون ، وكذا روي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              وقال النخعي والشعبي : الوصية للوالدين ، والأقربين على الندب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الضحاك وطاوس : الوصية للوالدين والأقربين واجبة بنص القرآن إذا كانوا لا يرثون . قال طاوس : من أوصى لأجانب وله أقرباء فردت للأقرباء .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 181 ] وقال الضحاك : من مات وله شيء ولم يوص لأقربائه فقد مات عن معصية لله . وقال الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى فيما ذكره الطبري : إذا أوصى رجل لقوم غرباء بثلثه وله أقرباء أعطى الغرباء ثلث المال ، ورد الباقي على الأقرباء .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري : وحكي عن طاوس أن جميع ذلك ينتزع من الموصى لهم ويدفع لقرابته ; لأن آية البقرة عندهم محكمة . قال النحاس : فالواجب أن لا يقال : إنها منسوخة ; لأن حكمها ليس بناف حكم ما فرض الله من الفرائض ، فوجب أن يكون كتب عليكم الآية . كقوله : كتب عليكم الصيام [البقرة : 183] .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو إسحاق في قوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت [البقرة : 180] هذا الفرض بإجماع نسخته آيات المواريث التي في النساء ، وهذا مجمع عليه . وقال قوم : إن المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث ، وأمر الوصية في الثلث باق . وهذا ليس بشيء ; لأن الإجماع أن ثلث الرجل إن شاء أن يوصي فيه بشيء فله ، وإن ترك ذلك فجائز ، والآية في قوله : كتب عليكم [البقرة : 180] الوصية منسوخة بإجماع كما وصفنا . وقال الطبري بإسناده إلى جهضم ، عن عبد الله بن بدر ، عن ابن عمر في قوله : إن ترك خيرا الوصية [البقرة : 180] نسختها آية المواريث . قال ابن يسار : قال ابن مهدي : فسألت جهضما عنه فلم يحفظه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 182 ] ولما ذكر ابن الحصار في "ناسخه" قول ابن عباس وابن عمر قال : هذا إنما هو نقل وتصريح بالنسخ ، وليس برأي ولا اجتهاد . وفي ابن ماجه بإسناد ضعيف من حديث جابر مرفوعا : "من مات على وصية مات على سبيل وسنة وتقى وشهادة ، ومات مغفورا له" ومن حديث أنس مرفوعا : "المحروم من حرم وصيته" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي المسألة قول ثالث ، قاله أبو ثور : إنها ليست واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم ، فواجب أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه ; لأن الله فرض أداء الأمانات ، فمن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس . بواجب عليه أن يوصي ، يقويه قوله : "ما حق امرئ مسلم" فأضاف الحق إليه ; كقوله : هذا حق زيد فلا ينبغي أن يتركه ، فإذا تركه لم يلزمه .

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف رواية : يريد الوصية ، فعلق ذلك بإرادة الموصي ، ولو كانت واجبة لم يعلقها بإرادته ، وهو رأي الجماعة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 183 ] قال ابن بطال : ومما يدل على ذلك أيضا أن ابن عمر راوي الحديث لم يوص ، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبا ، ولكنه عقل منه للاستحباب . وقد أسلفنا رد هذا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم اعلم أن الحق في اللغة هو الثابت مطلقا ، فإذا أطلق في الشرع فالمراد به ثبوت الحق فيه ، ثم الحكم الثابت في الشرع أعم من كونه واجبا أو مندوبا أو مباحا إذ كل واحد منها ثابت وموجود فيه ، لكن إطلاق الحق على المباح قلما يقع في الشريعة ، وإنما يؤخذ فيه بمعنى الواجب والندب ، فإن اقترن به على ما في معناها ظهر فيه قصد الوجوب وإلا فهو محتمل كما جاء في هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وعلى هذا فلا حجة لداود وأتباعه في التمسك به على الوجوب ; لأنه لم تقترن به قرينة تزيل إجماله ، فإن أبى إلا دعوى ظهوره قابلناه بما قاله بعض أصحابنا في هذا الحق ، أنه قد اقترن به ما يدل على الندب ، وهو تعلقها على الإرادة ، فإقرار مثل هذا يقوي إرادة الندب ، ولو أنا سلمنا أن ظاهره الوجوب ، نقول بموجبه فيمن كان عليه حقوق يخاف ضياعها ، أو له حقوق كما قال أبو ثور .

                                                                                                                                                                                                                              والترخيص في الليلتين أو الثلاث رفع الحرج والعسر أو أراد الموصي يتأمل ويقدم في هذه الليالي ما يريد الوصاة به .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("مكتوبة عنده" ) فيه : أن الوصية نافذة وإن كانت عند صاحبها ، ولم يجعلها عند غيره ، وكذلك إن جعلها عند غيره وارتجعها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 184 ] وفيه : أن الكتاب يكفي من غير إشهاد ، وبه قال محمد بن نصر المروزي ، وهو ظاهر الحديث ، ولولا أنه كاف لما كان لذكره فائدة . وحمله المتأخرون ، منهم النووي على أن المراد : إذا أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على مجرد الكتابة ، بل يعمل بها ولا ينتفع إلا إذا كانت بإشهاد ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، وكذا قال القرطبي : ذكر الكتابة مبالغة في زيادة الاستيثاق ، فلو كتبها ولم يشهد بها فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه ، يلزمه تنفيذه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث عمرو بن الحارث : فقد أسلفته في الكلام على أم الولد وكونه ختنه ; لأنه أخو جويرية أم المؤمنين ، وهذا قول ابن الأعرابي وابن فارس والأصمعي أن الختن من قبل المرأة ، والصهر من قبل الزوج . وقال محمد بن الحسن : الختن : الزوج ومن كان من ذوي رحمه ، والصهر من قبل المرأة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (أرضا جعلها صدقة ) إنما تصدق بها في صحته وأخبر بالحكم بعد وفاته ، وهي : فدك والتي بخيبر ، قاله ابن التين وقد أسلفنا هناك أن فيه دلالة على أن أم الولد تعتق بموت السيد ، وقال ابن المنير : ووجه دخوله هنا احتمال كون الصدقة هنا موسى بها ، وهو مخالف لما ذكره ابن التين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 185 ] وأما حديث ابن أبي أوفى : فقد سلف الجواب عنه ، والمراد فيه أنه لم يوص ، إنما أراد الوصية التي زعم بعض الشيعة أنه أوصى بالأمر إلى علي ، وقد تبرأ علي من ذلك حين قال له : أعهد إليك رسول الله بشيء لم يعهده إلى الناس ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة . وهو راد لما أكثره الشيعة من الكذب على أنه أوصى له بالخلافة . وأما أرضه وسلاحه وبغلته ، فلم يوص فيها على جهة ما يوصي الناس في أموالهم ; لأنه قال : "لا نورث ، ما تركناه صدقة " ورفع الميراث عن أزواجه وأقاربه ، وإنما تجوز الوصية لمن لا يجوز لأهله وراثته .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث عائشة : فيه : أنه انخنث . أي : انثنى . ومنه سمي : المخنث ; لتثنيه وتكسره . قال صاحب "العين" : الخنث : السقاء . وخنث : إذا سال . وخنثته أنا .

                                                                                                                                                                                                                              ووصيته بكتاب الله في الحديث الذي قبله غير معنى قول عائشة : بما أوصى ؟

                                                                                                                                                                                                                              وقوله فيه : (أوصى بكتاب الله ) . قد فسره علي بقوله : ما عندنا إلا كتاب الله . وكذلك قال عمر : حسبنا كتاب الله حين أراد أن يعهد عند موته .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية