الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2660 2815 - حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يقول : اصطبح ناس الخمر يوم أحد ، ثم قتلوا شهداء . فقيل لسفيان من آخر ذلك اليوم ؟ قال ليس هذا فيه . [4044 ، 4618 - فتح: 6 \ 31]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث أنس : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ، وقد سلف قريبا ، ويأتي في المغازي ، وأخرجه مسلم في الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جابر : اصطبح ناس الخمر يوم أحد ، ثم قتلوا شهداء . فقيل لسفيان : من آخر ذلك اليوم ؟ قال : ليس هذا فيه .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : لا شك أنه كان قبل تحريمها ، فما منعهم ذلك من الشهادة ; لأن ما قبل النهي عفو ، وأما الآية فروى الحاكم في "مستدركه " صحيحا من حديث ابن عباس مرفوعا : "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 404 ] أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد من أنهار الجنة
                                                                                                                                                                                                                              ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة (في ظل ) العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، فقالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق ؟ لئلا يزهدوا في الجهاد ، ويتكلوا عن الحرب ، فقال الله -عز وجل - : أنا أبلغهم عنكم " فأنزل الله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية .
                                                                                                                                                                                                                              [آل عمران : 169] .

                                                                                                                                                                                                                              وذكره الطبري عن ابن مسعود مرفوعا ، وروى الواحدي من حديث طلحة بن خراش عن جابر أنها نزلت في والد جابر ، وقال سعيد . . بن جبير : نزلت في حمزة ، ومصعب بن عمير ، لما أصيبا يوم أحد ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في أهل أحد خاصة ، وقال جماعة منهم : نزلت في شهداء بئر معونة ، وقيل : نزلت تنفيسا لأولياء الشهداء وإخبارا عن حال قتلاهم ، فإنهم كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور وأبناؤنا في القبور ، وقال مقاتل : نزلت في قتلى بدر ، وكانوا أربعة عشر شهيدا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( فرحين ) هو مثل فارحين ، قال الداودي : وقد يقال الفرحين الآمنين في الدنيا ، المغترين بزينتها .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ( لم يلحقوا بهم ) أي : في الفضل ، وإن كان لهم فضل وأن الله لا يضيع المعنى : ويستبشرون " بأن الله " وقرأ الكسائي :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 405 ] (وإن الله )
                                                                                                                                                                                                                              ، بكسر الألف على أنه مقطوع من الأول المعنى ، وهو لا يضيع أجر المؤمنين ثم جيء بـ (إن ) توكيدا ، وحديث أنس سلف طرف منه أيضا في القنوت ، وسيأتي في غزوة الرجيع أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "غرائب مالك " للدارقطني يقول في دعائه : "اللهم اشدد وطأتك على مضر الفدادين أهل الوبر ، اللهم سنين كسني يوسف " . تفرد به أحمد بن صالح ، عن ابن نافع ، عن مالك بهذا الإسناد ، وللطبري من حديث أنس : لا أدري أكانوا أربعين أو سبعين ، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن حرام بن ملحان الأنصاري هو الذي بلغ الرسالة ، وأن عامر بن الطفيل قتلهم أجمع ، وأنزل الله ولا تحسبن الآية .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "سير ابن إسحاق " أن بعثهم كان على رأس أربعة أشهر من أحد وكان أبو براء (عامر ) بن مالك ملاعب الأسنة هو الذي طلبهم ، وأنه قال : أنا لهم جار ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنذر بن عمرو في أربعين رجلا من خيار المسلمين ، فيهم الحارث بن الصمة ، وحرام بن ملحان ، وعروة بن أسماء ونافع بن ورقاء وعامر بن فهيرة فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، واستصرخ عليهم عامر بن الطفيل بني عامر ، فأبوا أن يجيبوه ، وقالوا : لن نخفر أبا براء فاستصرخ تلك القبائل عصية وغيرها فقتلوهم إلا كعب بن زيد فتركوه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 406 ] وبه رمق ، فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وأسر عمرو بن أمية وكان على سرح القوم ، ثم أطلق لما أخبر أنه من مضر أطلقه عامر ، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما يزعم ، فلما أخبر عمرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر قال : "هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مغازي موسى بن عقبة " فقال : كان أمير السرية مرثد بن أبي مرثد .

                                                                                                                                                                                                                              ولمسلم : أن ناسا جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة ، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار ، يقال لهم : القراء قال أنس : منهم خالي حرام ، فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان .

                                                                                                                                                                                                                              وللبيهقي في "دلائله " عن أنس أيضا : لما أصيب خبيب بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا على حي من بني سليم قال : فقال خالي حرام لأميرهم : دعني فلأخبر هؤلاء أنا ليس إياهم نريد ، فيخلون وجوهنا قال : فأتاهم ، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه به ثم انطووا عليهم فما بقي منهم مخبر .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين : ويقال : إن عامر بن فهيرة لم يوجد ، يرون أن الملائكة وارته .

                                                                                                                                                                                                                              و (معونة ) بالنون وفتح الميم وضم العين ، بين مكة وعسفان أرض لهذيل ، وعن الكندي هي جبال يقال لها : أبلى في طريق المصعد من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 407 ] المدينة إلى مكة وهي لبني سليم ، وقال أبو عبيدة في "كتاب المقاتل " : هي ماء لبني عامر بن صعصعة ، وقال الواقدي : هي أرض لبني سليم وأرض بني كلاب .

                                                                                                                                                                                                                              و (رعل ) بكسر الراء ثم عين مهملة ساكنة ثم لام ; ابن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة.

                                                                                                                                                                                                                              و (ذكوان ) هو ابن ثعلبة بن سليم بن منصور ، قال ابن دريد : اشتقاقه من شيئين : إما من الذكاء ممدود ، وهو تمام السن أو من ذكا النار مقصور ، واشتقاق رعل من الرعلة ، وهي النخلة الطويلة ، والجمع رعال ، والرعلة القطعة من الخيل ، والراعل نخل من النخل معروف بالمدينة ، وناقة رعلاء إذا قطعت أذنها فتركت منها قطعة معلقة ، وعصية قال الهجري : هو الخفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور .

                                                                                                                                                                                                                              تتمات :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : قال الداودي : قوله : (ثم نسخ بعد ) يريد سقطت عن ذكره ; لتقادم عهده إلا أن تذكر بمعنى الرواية ليس النسخ الذي يبدل مكانه خلافه ; لأن الخبر لا يدخله نسخ ، وعبارة غيره : إن القرآن ربما نسخ لفظه ، وبقي حكمه مثل : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة . فمعنى النسخ هنا أنه أسقط من التلاوة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال السهيلي : هذا المذكور -أعني : ما نزل ونسخ - ليس عليه (رونق ) الإعجاز ، قال : ويقال : إنه لم ينزل بهذا النظم ، ولكن بنظم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 408 ] معجز كنظم القرآن ، ولا يقال : إنه خبر ، والخبر لا ينسخ ، إنما نسخ منه الحكم فقط ، فإن حكم القرآن التلاوة ، وأن لا يمسه إلا طاهر وأن يكتب بين الدفتين ، وأن يكون تعلمه من فروض الكفاية ، فكل ما نسخ ، (ورفعت ) منه هذه الأحكام وإن بقي محفوظا فإنه منسوخ ، فإن تضمن حكما جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولا به ، وأنكرت ذلك المعتزلة ، وإن تضمن خبرا بقي ذلك الخبر مصدقا به ، وأحكام التلاوة منسوخة عنه ، كما نزل : لو أن لابن آدم واديان من ذهب . فهذا خبر حق ، والخبر لا ينسخ ، لكن نسخ منه أحكام التلاوة له ، وكان قوله : لو أن لابن آدم ، في سورة يونس بعد قوله : كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [يونس : 24] كذا قال ابن سلام .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : فيه دلالة كما قال المهلب : أن من قتل غدرا شهيد ; لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرا بهم .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : اختلف الناس في كيفية حياة الشهيد ، وأولاها -كما قال ابن بطال - أن تكون الأرواح ترزق ، وكذا جاء الخبر : "إنما نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة " ، قال أهل اللغة : يعني يأكل منها .

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب "المطالع " تعلق : بضم اللام أي : تتناوله ، وقيل : نسمة وبالفتح أيضا ، ومعناه : تتعلق وتلزم ثمارها وتأوي إليها ، وقيل : هما

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 409 ] سواء ، وقد روي تسرح ، وهو يشهد للضم ومن رواه بالتاء على النسمة ، ويحتمل أن يرجع إلى التطير على أن يكون جمعا ، ويكون ذكر النسمة ; لأنه أراد الجنس لا الواحد ، وقد يكون التأنيث للروح ; لأنها تذكر وتؤنث ، وهذا الحديث أنها تعلق عام والقرآن ذكر في الشهداء .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : وقيل : تمثل أرواحهم طيرا تسرح في الجنة ، قال : وذكر بإسناد ضعيف أنها تجعل في حواصل طير ، ولا يصح في النقل ولا الاعتبار ; لأنها إن كانت هي أرواح الطير . فكيف يكون في الحواصل دون سائر الجسد ؟ وإن كان لها أرواح غيرها فكيف يكون لها روحان في جسد ؟ وكيف تصل لهم الأرزاق التي ذكر الله تعالى ; قال : وإنما الصحيح أن أرواحهم طائر تعلق في شجر الجنة ، (أي ) ترعى حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وما أنكره هو ثابت في "صحيح مسلم " ، وهو معدود من أفراده من حديث مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : "إن أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربكم إطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا ، ثم نأوي إلى تلك القناديل ، فقال لهم ذلك ثلاثا . فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 410 ] وفي "مستدرك الحاكم " وقال : على شرط مسلم من حديث محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير -زاد ابن أبي عاصم : - وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد من أنهار الجنة وتأكل من ثمارها . . " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث الحسين بن واقد -عند ابن أبي عاصم - عن الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود أن الثمانية عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر ، وفي لفظ : "أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحت العرش " .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عطية ، عن أبي سعيد مرفوعا : "أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ، ثم يكون مأواها قناديل معلقة بالعرش " .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث موسى بن عبيدة الربذي عن (عبيد الله بن يزيد ) ، عن أم فلانة -أظنها : أم (مبشر ) - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أرواح المؤمنين طير خضر في حجر من الجنة يأكلون من الجنة ، ويشربون من الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                              وبإسناد جيد إلى كعب بن مالك مرفوعا : "أرواح الشهداء في طير خضر " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 411 ] ولمالك في "الموطأ " : "نسمة المؤمن طائر " .

                                                                                                                                                                                                                              وأول بعض العلماء (في ) بمعنى (على ) أي : أرواحهم على جوف طير خضر ، كما قال تعالى : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي : على جذوع ، وجائز أن يسمى الطير جوفا لهم أو هو محيط به ومشتمل عليه كالحامل والجنين ، كما نبه عليه عبد الحق .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية