الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2888 [ ص: 283 ] 175 - باب: جوائز الوفد

                                                                                                                                                                                                                              3053 - حدثنا قبيصة، حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه يوم الخميس فقال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا" . فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: هجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: "دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه". وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". ونسيت الثالثة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب. فقال: مكة والمدينة واليمامة واليمن. وقال يعقوب: والعرج أول تهامة. [انظر: 114 - مسلم: 1637 - فتح: 6 \ 170]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا قبيصة، ثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس.. إلى أن قال: وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". ونسيت الثالثة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب، فقال: مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن. وقال يعقوب: والعرج أول تهامة.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              كذا في الأصول: (حدثنا قبيصة). قال الجياني: كذا في نسخة أبي زيد والنسفي وأبي أحمد، وعن ابن السكن، عن الفربري، عن البخاري :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 284 ] حدثنا قتيبة: بدل (قبيصة) وهو ما ذكره في باب مرضه من المغازي، وتكرر قتيبة، عن ابن عيينة في مواضع، ولعل البخاري سمع الحديث منهما، غير أنه لا يحفظ لقبيصة، عن ابن عيينة شيئا في "الجامع"، ولا ذكره الكلاباذي فيمن روى في "الجامع" عن غير الثوري .

                                                                                                                                                                                                                              والثالثة: ورد في رواية ستأتي أنها القرآن، وعن المهلب : هي تجهيز جيش أسامة بن زيد، وكان المسلمون اختلفوا في ذلك على الصديق فأعلمهم أنه - صلى الله عليه وسلم - عهد بذلك عند موته. وقال عياض: يحتمل أنها قوله: "لا تتخذوا قبري وثنا يعبد" فذكر مالك معناه مع إجلاء اليهود.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: سنة إجازة الوفد، وهو من باب الائتلاف، وهو عام في جميع الوفود الواردين على الخليفة، من الروم كانوا أو من المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا من الروم فإنهم لا يأتون إلا بأمر فيه منفعة وصلاح للمسلمين، فكذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بالوصاة بإجازتهم، وأيضا فإنهم ضيوف، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيهم: "جائزته يوم وليلة"، ولم يخص فهو عام.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: دلالة (على) أن الوصية المدعاة لعلي باطلة؛ لأنه لو كان وصيا كما زعموا لعلم قضية جيش أسامة كما علم ذلك الصديق وما جهله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 285 ] وقوله: (فقالوا: هجر رسول الله) أي: اختلط، وأهجر: أفحش، قاله ابن بطال، وقال ابن التين : أي: هذى؛ يقال: هجر العليل، إذا هذى، يهجر هجرا بالفتح، والهجر - بالضم - الإفحاش. قال ابن دريد: يقال: هجر الرجل في المنطق، إذا تكلم مما لا معنى له، وأهجر: إذا أفحش.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا" فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، قالوا: هجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقال: "دعوني") لا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليدع شيئا أمر بتبليغه لتنازعهم مع أن الوحي كان ينزل عليه، فلو عورض في شيء أمر بتبليغه لبلغه، ولكان الله تعالى يعاتب من حال بينه وبين ما يريد، وقد تكفل (الله) له ولأمته بإظهار الدين كله وتمامه ووفاء ما وعده، ولم يكن يذكر إخراج المشركين وإجازة الوفد، وفي رواية أخرى أنه أوصى بالقرآن ويدع ما هو أوكد منه، وقد يكون هذا هو الذي أراد أن يكتبه، وقد بقي بعد ذلك أياما يمكنه التبليغ فيها؛ لأنه توفي يوم الاثنين حين اشتد الضحاء بعد أن نظر إلى الناس قياما وهم في صلاة الصبح.

                                                                                                                                                                                                                              و"جزيرة العرب" ذكر في الكتاب عن المغيرة تفسيرها وعنه زيادة: وقرياتها. وعن مالك: إنها المدينة. وعن أبي عبيد: هي ما بين حفر أبي موسى بطوارة من أرض العراق إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين رمل بيرين إلى منقطع السماوة في العرض، ونقل الشيخ أبو الحسن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 286 ] عن مالك أنها الحجاز ومكة والمدينة واليمن، وروى يعقوب بن محمد الزهري عنه: واليمامة. وقال الأصمعي: حدها من عدن إلى ريف العراق طولا، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا، وهي عند الجويني والقاضي الحسين: الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها، والمشهور أن الحجاز بعض الجزيرة، وبه جزم العراقيون وغيرهم. وقالوا: المراد بالجزيرة في الحديث: الحجاز، ويؤيده رواية أحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح: آخر ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب" انتهى، فلم يتفرغ أبو بكر لذلك، فأجلاهم عمر، قيل كانوا زهاء أربعين ألفا. ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها من الجزيرة، وإنما أخرج أهل نجران من الجزيرة وإن لم يكن من الحجاز؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه، رواه أبو داود من طريق ابن عباس . وعن الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، ومن جدة إلى ريف العراق عرضا، وفي رواية أبي عبيد عنه: (الطول) من أقصى عدن إلى ريف العراق طولا، وعرضا من جدة وما والاها إلى ساحل البحر إلى أطراف الشام.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 287 ] وقال الشعبي: هي ما بين قادسية الكوفة إلى حضرموت. قال الخليل فيما نقله أبو عبيد البكري: سميت جزيرة العرب؛ لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها. قال أبو إسحاق الحربي: أخبرني عبد الله بن شبيب عن زهير بن محمد عن محمد بن فضالة إنما سميت جزيرة لإحاطة البحر بها والأنهار من أقطارها وأطوارها، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط عن الجزيرة، وهي ما بين الفرات والدجلة، وعن سواد العراق حتى (وقع) في البحر من ناحية البصرة والأبلة، وامتد البحر من ذلك الموضع مغربا مطيفا ببلاد العرب منعطفا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجر وأسياف عمان والشحر وسال منه عنق إلى حضرموت إلى أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن بلاد حكم والأشعريين وعك، ومضى إلى جدة وساحل مكة وإلى الجار ساحل المدينة، وإلى ساحل تيماء وأيلة حتى بلغ إلى قلزم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا (العنق) من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر، حتى دفع في بحر الشام، ثم قطع ذلك البحر من مصر حتى بلاد فلسطين ومر بعسقلان وسواحلها، وأتى على صور بساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين، حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 288 ] فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي تركوها على خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن.

                                                                                                                                                                                                                              فرع: يمنع كل كافر عندنا وعند مالك من استيطان الحجاز - وهو ما ذكرناه - ولا يمنعون من ركوب بحره، ولو دخل بغير إذن (الإمام) أخرجه وعذره إن علم أنه ممنوع، فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين كرسالة وحمل ما يحتاج إليه، وعن أبي حنيفة جواز سكناهم الحرم، ويمنع دخول (حرم) مكة، قال تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام [التوبة: 28] والمراد به هنا جميع الحرم، وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب"، فلو دخله ومات لم يدفن فيه، وإن مات في غير الحرم من الحجاز وتعذر نقله دفن هناك، وحرم المدينة لا يلحق بحرم مكة فيما ذكرنا، لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة: قوله: ("وأجيزوا الوفد") أي: أعطوا القادمين عليكم.

                                                                                                                                                                                                                              والجائزة: قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، وجائزته يوم وليلة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية