الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3497 [ ص: 295 ] 8 - باب: قصة البيعة، والاتفاق على عثمان بن عفان- رضي الله عنه-

                                                                                                                                                                                                                              وفيه مقتل عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما-.

                                                                                                                                                                                                                              3700 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل. قال: انظرا، أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قال: قالا: لا. فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا. قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا. حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورةيوسف، أو النحل-أو نحو ذلك- في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني-أو أكلني- الكلب. حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين، طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا. فقال: إن شئت فعلت. أي: إن شئت قتلنا. قال: كذبت، بعد ما تكلموا بلسانكم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 296 ] وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس. وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي. فلما أدبر، إذا إزاره يمس الأرض. قال: ردوا علي الغلام. قال: ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام. ولا تقل: أمير المؤمنين. فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت. قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلا لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل. فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف. قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر-أو الرهط- الذين توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض. فسمى عليا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدا، وعبد الرحمن. وقال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 297 ] يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء-كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا، والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قالت: أدخلوه. فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي. فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي، والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان. فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه. [انظر: 1392- فتح: 7 \ 95]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساقه من حديث عمرو بن ميمون بطوله، وقد سلف قطعة منه في الجنائز، طعنه أبو لؤلؤة غلام نصراني للمغيرة عند صلاة الصبح بعد

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 298 ] أن كبر، وقال مالك: قبل أن يدخل في الصلاة، وطعن معه ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة)، قرأ فيها: إنا أعطيناك الكوثر و إذا جاء نصر الله والفتح خوف فوات الوقت; لأن لهم جولة، وكانت صلاته بأمر عمر- رضي الله عنه- وكان ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، عن ثلاث وستين، أو خمس وخمسين، وكانت خلافته عشر سنين وخمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (الصنع) هو بفتح الصاد المهملة والنون، أي: الصانع، قال في "الفصيح": رجل صنع اليد واللسان وامرأة صناع، وفي "نوادر أبي زيد": والصناع تقع على الرجل والمرأة، وكذلك الصنع، وكان هذا الغلام نجارا.

                                                                                                                                                                                                                              وقول (ابن) عباس- رضي الله عنهما-: (إن شئت فعلت أي: إن شئت قتلنا فقال: كذبت) إلى آخره، إنما قال ذلك لعلمه أن عمر لا يأمر بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقول عمر للشاب الذي إزاره يمس الأرض: (ارفع ثوبك فإنه (أتقى) لثوبك وأتقى لربك).

                                                                                                                                                                                                                              فيه: ما كان عليه من الأمر بالمعروف، ولم يشغله حاله عن ذلك، والدين الذي كان عليه للمسلمين إنما ارتزق من بيت مالهم ما كان يغنمه،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 299 ] ولم يكن عليه غرامة ذلك إلا أنه أراد أن يحتسب عمله لا يتعجل منه شيء في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ولا تقل: أمير المؤمنين) لما أيقن بالموت لتعلم هي ذلك، فإن كرهت دفنه هناك منعته، وفي استئذانه لها دليل على أنها تملك البيت والسكن إلى أن توفيت، ولا يلزم منه الإرث; لأن أمهات المؤمنين محبوسات بعد وفاته، ولا يتزوجن إلى أن يمتن فهن كالمعتدات في ذلك، وكان الناس يصلون في الجمعة في حجر أزواجه.

                                                                                                                                                                                                                              ووصيته أن يستأذن بعد موته عائشة خشية أن تراعيه في حياته، وبكاء حفصة، لغلبة الشفقة، كان قبل الموت أيضا، ولم يرتفع صوتها به.

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله: (ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر-أو الرهط- الذين توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض. فسمى عليا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدا، وعبد الرحمن).

                                                                                                                                                                                                                              فيه: جواز تولية المفضول مع وجود الفاضل; لأن عثمان وعليا أفضلهم ولم يذكر أبا عبيدة؛ لأنه توفي قبله سنة ثماني عشرة، ولا سعيد بن زيد; لأنه كان غائبا فيما قيل.

                                                                                                                                                                                                                              وفي وصاياه دلالة لمن أنفذت مقاتله حكم الحي، وأنه يرث من مات بعد أن أنفذت مقاتله وقبل أن تزهق نفسه، وهو قول ابن القاسم، وقال سحنون: لا يرث من مات قبله إذ لو كان شيء من البهائم أنفذت مقاتله لم يؤكل، والذي أوصى به من أمر سعد نصيحة منه بعد موته.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في ولده: (يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له) قال هذا مع أهليته، لكنه رأى غيره أولى منه أو خشي أن يقال: هرقلية أو كسروية أن يجعل في الأولاد الخلافة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 300 ] وقوله في أهل الذمة: (لا يكلفوا إلا طاقتهم) يريد في الجزية، وقول عبد الرحمن: (اجعلوا أمركم إلى ثلاثة) يعني: في الاختيار ليس أنهم يروا من الأمر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان). هو صريح في حضوره، وروى مالك: أن طلحة كان غائبا، وأن عمر قال: أنظروا طلحة ثلاثا، فإن قدم وإلا فاقضوا أمركم، وإن عثمان بويع له في اليوم الثالث، ثم قدم طلحة من آخر ذلك اليوم، فمشى إليه عثمان فوجد طلحة يحط عن رواحله فقال له عثمان: قد بقي لك باقي اليوم، فالتفت إلى من بجانبه فقال: هل ثم خلاف؟ قيل: لا، فبايع لعثمان، وكانت خلافته ثنتي عشرة سنة ابن ثمان وثمانين، أو ابن تسعين، أو ابن ست وثمانين، سنة خمس وثلاثين.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية