الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4565 4846 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد، أخبرنا ابن عون قال: أنبأني موسى بن أنس، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: " اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ; ولكنك من أهل الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق فيه حديثين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما:

                                                                                                                                                                                                                              حديث نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم [ ص: 266 ] عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع : لا أحفظ اسمه- فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية. قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني: أبا بكر .

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه، وقد أخرجه في المغازي والاعتصام، وأخرجه الترمذي والنسائي :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله آخرا: ( قال ابن الزبير ) يعلمك أن ابن أبي مليكة يرويه عنه، وبه ظهر اتصاله، فإنه لم يسمعهما -أعني: الخيرين- لصغر سنه عنه. وفي رواية أخرى -ذكرها بعد- من طريق ابن جريج : أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم، فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              ( الخيران ): بالخاء المعجمة، وتجوز بالمهملة أيضا. و ( يهلكا ) قد أسلفناه بإثبات أن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 267 ] وقال ابن التين: وقع بغير نون، ونصبه بتقدير أن، قال: وهي ثابتة عند أبي ذر .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( ولم يذكر ذلك عن أبيه -يعني: أبا بكر ) فيه أن الجد للأم يسمى أبا ; قال تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ النساء: 22] والجد للأم داخل في ذلك. وأغرب بعض الشراح فقال: يحتمل أنه أراد أبا بكر عبد الله بن الزبير بن العوام، أو أبا بكر عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، فإن أبا مليكة له ذكر في الصحابة عند أبي عمر وأبي نعيم، وقال أبو عمر : فيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              الرجل الآخر هو القعقاع، وهو الذي أشار به الصديق -كما صرح به بعد في الرواية الأخرى، فقال أبو بكر : أمر القعقاع، وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس. وهو: ابن معبد بن زرارة بن عديس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم. وقال الكلبي في "جامعه" "أنساب العرب": كان يقال له لسخائه: تيار الفرات. قال ابن التين: وكان أرق من الأقرع ; فلهذا أشار به الصديق .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              جاء في رواية أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر : والله لا أكلمك [ ص: 268 ] يا رسول الله إلا كأخي السرار، فكان بعد لا يبين كلامه له حتى يستفهمه.

                                                                                                                                                                                                                              ولا شك أن رفع الصوت عليه فوق صوته حرام لهذه الآية، وما ثبت في "الصحيح" أن عمر استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن، فيحتمل أن يكون قبل النهي، أو أن يكون علو الصوت بالهيئة الاجتماعية لا بانفراد كل منهن. ومعنى قوله: ولا تجهروا له بالقول لا تخاطبوه: يا محمد، يا أحمد ، ولكن يا نبي الله، يا رسول الله ; تكريما له وتوقيرا، وقيل: له ، أي: عليه. كجهر بعضكم لبعض الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه دلالة أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يشرع لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، وكره بعضهم رفع الصوت عند قبره، وبعضهم رفع الصوت في مجالس العلماء ; تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عون أنبأني موسى بن أنس ، عن أنس أنه - عليه السلام - افتقد ثابت ابن قيس ، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال له: ما شانك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله، وهو من أهل النار.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 269 ] فأتى الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال: كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، وإنك من أهل الجنة".


                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              كذا هو عند البخاري عن علي بن عبد الله ، ثنا أزهر بن سعد ، أنا ابن عون . وكذا أخرجه في المغازي، وأخرجه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمة وجعفر بن سليمان وسليمان بن المغيرة ، عن ثابت، عن أنس - رضي الله عنه -. ورواه أبو نعيم ، عن سليمان بن أحمد ، عن عبد الله بن أحمد ، عن يحيى بن معين، عن أزهر بن سعد ، أنا ابن عون ، عن ثمامة بن أنس ، ثم قال: لا أدري من الواهم؟ وعند مسلم : فكنا نراه -يعني: ثابتا- يمشي بين أظهرنا رجلا من أهل الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              جاء في غير هذا الموضع: نهانا الله أن نرفع أصواتنا وأنا جهير الصوت، ونهينا عن الخيلاء وأنا أحب الجمال، ونهينا عن الحسد، وما أحب أن يفوتني أحد بشسع نعلي، فقال له - عليه السلام -: "أما ترضى [ ص: 270 ] أن تعيش حميدا وتموت شهيدا وتدخل الجنة؟ " فقتل فيمن خرجوا إلى مسيلمة، فكان هو على الأنصار، وخالد بن الوليد على الجيش كله.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              البشارة -بكسر الباء- إذا أطلقت تكون للخير بخلاف النذارة. وفقهه سلف في الحديث قبله.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              جاء في مسلم : أنه لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته فقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ وساق الحديث، وينبغي أن تعلم أن هذه الآية نزلت في بني تميم في المحرم سنة تسع، وقتل سعد في الخندق سنة خمس. قلنا كل ذلك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية