الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              423 [ ص: 497 ] 53 - باب: الصلاة في مواضع الخسف والعذاب ويذكر أن عليا - رضي الله عنه - كره الصلاة بخسف بابل.

                                                                                                                                                                                                                              433 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم". [3380، 3381، 4419، 4420، 4702 - مسلم: 2980 - فتح: 1 \ 530] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، ثنا سفيان، ثنا عبد الله بن شريك، عن عبد الله بن أبي المحل العامري قال: كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يصل حتى أجازه، وعن حجر بن عنبس الحضرمي، عن علي قال: ما كنت لأصلي في أرض خسف الله تعالى بها ثلاث مرار.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 498 ] قال البيهقي: وهذا النهي إن ثبت مرفوعا، فليس لمعنى يرجع إلى الصلاة؛ إذ لو صلى فيها لم يعد، وإنما هو كما جاء في قصة الحجر.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أبو داود من حديث أبي صالح الغفاري -واسمه سعيد بن عبد الرحمن- أن عليا مر ببابل، وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام، فلما فرغ من الصلاة قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة، وهو حديث واه، قال ابن يونس: ما أظن أن أبا صالح سمع من علي، وقال عبد الحق: حديث واه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القطان: في سنده رجال لا يعرفون. وقال البيهقي في "المعرفة": إسناده غير قوي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: في سنده مقال، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا".

                                                                                                                                                                                                                              ويشبه -إن ثبت الحديث- أن يكون نهاه أن يتخذها وطنا ومقاما، كأنه إذا أقام بها كانت صلاته فيها، وهذا من باب التعليق في علم البيان، ولعل النهي له خاصة، ألا تراه قال: نهاني، ولعل ذلك إنذار منه مما لقي من المحنة بالكوفة، وهي من أرض بابل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 499 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              بابل بالعراق مدينة السحر والخمر معروفة، قاله البكري، ونقل عن أصحاب الأخبار أنه بناها النمروذ الخاطئ النذل ببابل، طوله في السماء خمسة آلاف ذراع، وهو البنيان الذي ذكره الله في كتابه العزيز بقوله: فأتى الله بنيانهم من القواعد الآية، وبات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لسانا كل يتبلبل بلسانه، فسميت بابل. وذكر الهمذاني أن سنان بن عمران العمليقي أول الفراعنة تملك في الإقليم الأوسط في حصنه المشترى، وولايته وسلطانه بأرض السواد، واشتق اسم موضعه من اسم المشترى، وبابل باللسان الأول ترجمة المشترى بالمعجمة قال: وربما سموا العراق بابلا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأخفش فيما نقله الصاغاني: وبابل لا ينصرف لتأنيثه؛ وذلك أن كل اسم مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف فإنه لا ينصرف في اللغة، وقال الحازمي: قيل لأبي يعقوب الإسرائيلي: -وكان قد قرأ الكتب- ما بال بغداد لا نرى فيها إلا مستعجلا قال: إنها قطعة من أرض بابل فهي تبلبل أهلها.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال البخاري:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 500 ] الكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي في باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، وقد أخذ على البخاري في قوله: (نزوله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر)، وفي "الصحيح": مر به مسرعا، كما ستعلمه هناك، وأخرجه أيضا في أحاديث الأنبياء، والتفسير، وأخرجه مسلم في أواخر كتابه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا القول قاله لما مر بالحجر كما جاء في بعض الروايات في البخاري في المغازي، وكان ذلك في طريقه إلى تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة، وقال هنا: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين" وفي أخرى: "على هؤلاء القوم". وفي أخرى: "هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم".

                                                                                                                                                                                                                              وإنما قال هنا: "لا تدخلوا" من جهة ذلك التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط، ويدل على ذلك قوله تعالى: وسكنتم في مساكن [ ص: 501 ] الذين ظلموا أنفسهم الآية؛ فوبخهم الله تعالى على ذلك، وكذلك تشاءم - صلى الله عليه وسلم - بالبقعة، التي نام فيها عن الصلاة ورحل عنها، ثم صلى، فكراهته الصلاة في موضع الخسف أولى، إلا أن إباحته - صلى الله عليه وسلم - الدخول بها على وجه البكاء والاعتبار يدل على أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع وخشوع واعتبار، فإن صلى هناك غير باك لم تبطل صلاته.

                                                                                                                                                                                                                              وزعم بعض أهل الظاهر أن من صلى في الحجر -بلاد ثمود- وهو غير باك فعليه سجود السهو إن كان ساهيا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وكذا من صلى في موضع مسجد الضرار، وهذا خلف من القول الأول لاحقا بسقوطه إن كان لا يجوز عنده فيه صلاة من تعمد ترك البكاء، فكيف أجاز صلاة الساهي بعد سجود السهو؟ وإسقاط الواجبات لا يجبر بسجود السهو عند العلماء، وهو تخليط منه، فقد بين الشارع في الحديث معنى نهيه عن دخول مواضع الخسف لغير الباكي، وهو: "لا يصيبكم مثل ما أصابهم" وليس في هذا ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول العذاب، وتسويته بين الصلاة في موضع مسجد الضرار بالصلاة في موضع الخسف ليس في الحديث، وهو قياس فاسد منه، وهو لا يقول بالقياس فقد تناقض.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "إلا أن تكونوا باكين" أمرهم به؛ لأنه ينشأ عن التفكر، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء، والتفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: تفكر يتعلق بالله -عز وجل- إذ قضى على أولئك بالكفر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 502 ] ثانيها: يتعلق بأولئك القوم إذ بارزوا ربهم بالكفر والعناد.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: يتعلق بالمار عليهم إذ لأنه وفق للإيمان قبل الوجود.

                                                                                                                                                                                                                              ومن الأول: خوف تقليبه القلوب فربما جعل مآل المؤمن إلى الكفر، ومنه: إمهال الكفار على كفرهم مدة، ومنه: شدة نقمته، وقوة عذابه، ومن الثاني: إهمالهم إعمال العقول في طاعة الخالق ومبارزتهم بالعناد والمخالفة -كما مر- وفوات أمرهم حتى لا وجه للاستدراك حتى إن لعنتهم وعقوبتهم أثرت في المكان والماء فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم"، وأن يهريقوا ما استقوا من ماء ثمود، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.

                                                                                                                                                                                                                              ومن الثالث: توفيقه للإيمان -كما مر- واعتباره بالجنس وتمكنه من الاستدراك، ومسامحته في الزلل إلى غير ذلك من الأسباب التي توجب البكاء؛ نبه على ذلك ابن الجوزي، فمن مر على مثل أولئك ولم يتفكر فيما يوجب البكاء شابههم في إهمالهم التفكر فلم يؤمن عليه نزول العقاب.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "لا يصيبكم ما أصابهم" وفي رواية أخرى: "أن يصيبكم" بفتح الهمزة.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: إضمار تقديره حذرا أن يصيبكم أو خشية أن يصيبكم.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: الحث على المراقبة عند المرور بديار الظالمين، ومواضعها، والإسراع فيها كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في وادي محسر؛ لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية