الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4985 5291 - وقال لي إسماعيل: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق. ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ساق فيه عن حميد، عن أنس - رضي الله عنه - أنه سمعه يقول: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة له تسعا وعشرين، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله، آليت شهرا. فقال: "الشهر تسع وعشرون".

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله تعالى: لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم الطلاق، كما أمر الله -عز وجل-.

                                                                                                                                                                                                                              وقال لي إسماعيل: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 363 ] عنه -: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق. ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم -.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              هذا باب الإيلاء، وقد ترجم به كذلك ابن بطال في "شرحه" ، وهو في اللغة: الحلف يقال: آلى يؤلي إيلاء وألية: حلف.

                                                                                                                                                                                                                              وفي قراءة أبي وابن عباس: للذين يؤلون من نسائهم قالا: (يقسمون). وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنذر: وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم ، واختلف في الإيلاء المذكور في القرآن كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث إيلائه سلف مطولا من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وليس هو مما عقد له الباب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وقال لي إسماعيل). هو مما أخذه عنه في حال المذاكرة كما سلف غير مرة. وقد أخرجه في "الموطإ" من رواية يحيى وغيره عن مالك . وفي رواية معن والقعنبي: إذا مضت الأربعة الأشهر وقف حتى يفيء أو يطلق، ولا يقع عليه الطلاق إذا مضت الأربعة الأشهر حتى يوقف.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا رواه معمر، عن أيوب، عن نافع، عنه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 364 ] وفي "الغرائب" للدارقطني -من حديث بكر بن الشرود- قال: وتفرد به عن مالك -وليس بالقوي- عن نافع، عن ابن عمر أنه - عليه السلام - آلى من نسائه، فدخل على عائشة - رضي الله عنها - فقالت: إنما كنت أقسمت شهرا فقال: "إذا مضى من الشهر تسع وعشرون يوما فقد مضى الشهر".

                                                                                                                                                                                                                              وما ذكره عن عثمان فمن بعده بصيغة تمريض (أسانيدهم) جيدة أخرجها ابن أبي شيبة، قال في الأول: حدثنا ابن علية، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن عثمان، وطاوس أدرك زمن عثمان . ورواه أيضا بإسناد جيد عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وعن زيد بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وهي أملك بنفسها .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: وهذا هو الصحيح عن عثمان .

                                                                                                                                                                                                                              وأثر علي أخرجه ، عن ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عنه . وقال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 365 ] وأثر أبي الدرداء أخرجه، عن عبيد الله بن موسى، عن أبان العطار، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وأثر عائشة أخرجه عن وكيع، عن حسن بن فرات، عن ابن أبي مليكة، عنها .

                                                                                                                                                                                                                              والتعليق عن الاثني عشر سلف منه ما تقدم عن زيد بن ثابت.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب قال: سألت سعيدا أمير مكة عن الإيلاء; فقال: كان ابن عباس يقول: إذا مضت أربعة أشهر ملكت نفسها، وكان ابن عمر يقول ذلك. وحدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة أن النعمان بن بشير آلى من امرأته; فقال ابن مسعود: إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه بطلقة .

                                                                                                                                                                                                                              وذكره ابن المنذر عن عمر، وابنه، وعثمان، وعلي، وعائشة، وأبي الدرداء. وعنه أيضا عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المؤلي، .. الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "جامع الترمذي" من حديث الشعبي، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها -: آلى - عليه السلام - من نسائه، وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة. قال وهو عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أصح .

                                                                                                                                                                                                                              قال: وروي عن عائشة أنها قالت: أقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 366 ] وفي "سنن ابن ماجه" من حديث عكرمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أنه - عليه السلام - آلى من بعض نسائه شهرا، فلما كان تسعة وعشرين راح أو غدا، فقيل: يا رسول الله، إنما مضى تسع وعشرون; فقال. "الشهر تسع وعشرون" .

                                                                                                                                                                                                                              وعبارة أبي محمد بن حزم: صح أنه - عليه السلام - آلى من نسائه شهرا، فهجرهن كلهن شهرا، ثم راجعهن .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك; فقد أسلفنا مدلول الإيلاء وقراءة: للذين يؤلون قالا: (يقسمون). أي: على الامتناع من نسائهم; لأنه لا يقال: آليت من كذا، إنما يقال: آليت على كذا، آليت لأفعلن كذا، لكنه [لما كان] معناه: آلى ليمتنعن من امرأته، وكثر استعماله، حذف ذلك لدلالة الكلام عليه. وقيل: آلى من امرأته، حكى هذا الفضل بن سلمة عن بعض النحاة فيما ذكره الباجي في "منتقاه" عنه .

                                                                                                                                                                                                                              والفراء قال: إن (من) هنا بمعنى (على)، معناه: يؤلون على نسائهم.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، قال ابن المنذر: فروي عن ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا. وقالت طائفة: الإيلاء إنما هو آلى; حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر. هذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن موليا، وكان هذا عندهم يمينا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 367 ] محضا، لو وطئ في هذه اليمين حنث ولزمت الكفارة. وإن لم يطأ حتى انقضت المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان. وقال الثوري، والكوفيون: هو أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا وهو قول عطاء.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود، والنخعي، وابن أبي ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق . واعتل أهل هذه المقالة; فقالوا إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر فقد صار موليا ولزمه أن يفيء بعد التربص أو يطلق; لأنه قصد الإضرار باليمين. وهذا المعنى موجود في المدة القصيرة.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الاستذكار" عن القاسم: أن رجلا كان يولي من امرأته سنة. وفي رواية أن عائشة - رضي الله عنها - أمرت رجلا بعد عشرين شهرا أن يفيء أو يطلق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 368 ] وليس في حديث أنس إيلاء بأربعة أشهر، وإنما فيه أنه حلف ألا يجامع نساءه شهرا فبر يمينه وترك إتمامه.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج الكوفيون فقالوا: جعل الله التربص في الإيلاء أربعة أشهر، كما جعل في عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وفي عدة الطلاق ثلاثة قروء بلا تربص بعدها. قالوا: فيجب بعد المدة سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلا بالفيء، وهو الجماع في داخل المدة. والطلاق بعد انقضاء الأربعة الأشهر.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج أصحاب مالك فقالوا: جعل الله للمولي تربص أربعة أشهر; فهي له بكمالها لا اعتراض للزوجة عليه. كما أن الدين المؤجل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل . وتقدير الكوفيين للآية: فإن (فاءوا فيهن) . وتقدير المدنيين: فإن فاءوا بعدهن. قال إسماعيل: ولا يخلو التخيير الذي جعل للمولي في الفيء أو الطلاق أن يكون في الأربعة أشهر أو بعدها، فإن كان فيها فقد بعضوه من الأجل الذي ضربه الله له، وإن قالوا: بعدها -وهو ظاهر القرآن- صاروا إلى قولنا، وكذلك قوله تعالى: والذين يتوفون منكم [البقرة: 234] إلى قوله: بالمعروف . فليس يجوز لها أن تعمل في نفسها شيئا بالمعروف -وهو التزويج- إلا بعد تمام الأجل المضروب لها. وكل من أجل له أجل فلا سبيل عليه في الأجل وإنما عليه السبيل بعده، فنحن وهم مجمعون على صاحب الدين أنه كذلك. وعلى العنين إذا ضرب له أجل سنة أنه لا سبيل عليه قبل تقضيها، فإن وطئ

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 369 ] من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه حكم العنة، وإلا فيفرق بينه وبينها، فكذلك المولي لا سبيل عليه في المدة. فإن وطئ فيها من غير أن يؤخذ بذلك سقط عنه الإيلاء، وإن لم يطأ حتى انقضت أخذه الحاكم بالطلاق، فإن لم يطلق فرق بينهما الحاكم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفيء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيئه بلسانه وقلبه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه في حال العذر أجزأه ، وخالف الجماعة سعيد بن جبير; فقال: الفيء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان في سفر أو بحر .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، روي هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعي، وابن سيرين، ومالك والثوري، والكوفيين، والشافعي، وعامة الفقهاء.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن. وقال النخعي: كانوا يقولون: إذا فاء فلا كفارة عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال إسحاق بن راهويه: قال بعض أهل التأويل في قوله: فإن فاءوا الآية [البقرة: 226] يعني: اليمين التي حنثوا فيها. وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر وتقوى وباب من الخير

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 370 ] ألا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير" .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وما ذكره البخاري عن ابن عمر أن المولي يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثني عشر رجلا من الصحابة، وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يوقفون في الإيلاء .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك: وذلك الأمر عندنا وبه قال الليث، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور. فإن طلق فهي واحدة رجعية، إلا أن مالكا قال: لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة، ولا أعلم أحدا قاله غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إذا مضت للمولي أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة. وروي عن ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت، ورواية عن عثمان وعلي، وابن عمر ذكرها ابن المنذر، وهو قول عطاء والنخعي ومسروق والحسن وابن سيرين، وإليه ذهب الأوزاعي والليث وجماعة الكوفيين، وحكاه عبد الملك عن مالك.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: هي طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت الأربعة الأشهر. روي عن ابن المسيب -قال ابن حزم: ولم يصح عنه- وأبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 371 ] والصواب أن يوقف المولي; لأن الله تعالى جعل له تربص أربعة أشهر لا يطالب فيها بالوطء، وجعله بعدها مخيرا في الفيء بالجماع، أو إيقاع الطلاق; لأنه من خيره الله في أمر، فلا سبيل للافتئات عليه ورفع ما جعله الله له منه دون إذنه.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج لقول مالك: أنه إذا لم يطأ في العدة فلا تصح رجعته أن الطلاق إنما أوقع لرفع الضرر، فمتى لم يطأ فالضرر قائم، فلا معنى للرجعة، ومتى ارتجع كانت رجعته معتبرة بالوطء، فإن وطئ ولا علم أنه لم يكن له رجعة إلا أن يكون له عذر يمنعه من الوطء فتصح رجعته; لأن الضرر قد زال، وامتناعه من الوطء ليس من أجل الضرر، وإنما هو من أجل العذر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي بكر في قوله: فإن الله غفور رحيم [البقرة: 226]: المغفرة والرحمة لا يكونان إلا بعد ذنب، والله تعالى أباح الأربعة أشهر فيها فيئه بعد ذلك، وهي المدة التي يغفر له بتأخيرها. وقوله: فإن الله سميع عليم [البقرة: 227] يدل على أنه لا يسمع إلا ما نطق به.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك في كتاب المدنيين: إذا تم الأجل الذي جعله الله له، وقفه الإمام، فلم ير أن يزاد شيئا، فقال ابن القاسم عنه: يؤخر المرة بعد المرة. ويكون ذلك قريبا بعضه من بعض، فإن فاء وإلا طلق عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى عنه ابن وهب: يؤخر، وإن أقام في الاختيار أكثر من ثلاث حيض فإنه يوقف أيضا، فإن قال: أنا أفيء خلي بينه وبينها، إلا أن يكثر ذلك فتطلق عليه وروى عنه أشهب: يخلى بينه وبينها فإن لم يفئ

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 372 ] انقضت عدتها من يوم قال: أنا أفيء. طلقت عليه طلقة بائنة . ومذهب الشافعي أن الحاكم لا يطلق عليه كذا حكاه ابن التين

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: دليلنا أنه طلاق لإزالة الضرر، فجاز أن يليه الحاكم عند امتناعه منه، أصله طلاق المعسر بالنفقة.

                                                                                                                                                                                                                              قال: واختلف في المدة التي إذا حلف عليها يكون موليا، فقال مالك: إذا زاد على الأربعة أشهر يوما ونحوه ، وقال القاضي في "تلقينه": حتى يزيد على الأربعة زيادة مؤثرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف على وطء الأبد . وقال الحسن: لو حلف على ساعة لكان موليا. وقد أسلفنا ذلك أول الكلام.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              أوضح أبو محمد بن حزم الإيلاء على طريقته حيث قال: من حلف بالله أو باسم من أسمائه ألا يطأ امرأته، أو أن يسوءها، أو لا يجمعه هو وإياها فراش أو بيت سواء، قال ذلك في غضب، أو في رضا لصلاح رضيعها أو لغير ذلك استثنى في نفسه أو لم يستثن فسواء وقت ساعة فأكثر إلى جميع عمره أو لم يؤقت فالحكم في ذلك واحد، فيلزم الحاكم بأن يوقف ويأمره بوطئها ويؤجل له في ذلك أربعة أشهر من حين يحلف سواء طلبت المرأة ذلك أو لم تطلب، رضيت ذلك أو لم ترض. فإن فاء في داخل الأربعة الأشهر فلا سبيل عليه، وإن أبى لم يعترض عليه حتى تنقضي الأربعة الأشهر، فإذا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 373 ] تمت جبره الحاكم بالسوط على أن يفيء فيجامع أو يطلق حتى يفعل أحدهما كما أمره الله، إلا أن يكون عاجزا عن الجماع لا يقدر عليه أصلا، فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق، لكن يكلف أن يفيء بلسانه، ولا يجوز أن يطلق عليه الحاكم، فإن فعله لم يلزمه طلاق غيره.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حلف في ذلك بطلاق، أو عتق، أو صدقة، أو مشي أو غير ذلك فليس موليا وعليه الأدب; لأنه حلف بما لا يجوز الحلف به; لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله".

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: إن حلف بطلاق أو عتق أو حج أو عمرة أو صيام فهو إيلاء، فإن حلف بنذر صلاة، أو بأن يطوف أسبوعا، أو بأن يسبح مائة مرة فليس موليا. ورأى قوم أن الهجر بلا يمين له حكم الإيلاء. قال ابن عباس ليزيد بن الأصم: ما فعلت أهلك، عهدي بها لسنة سيئة الخلق قال: أجل، والله لقد خرجت وما أكلمها. فقال له عبد الله: عجل السير، أدركها قبل أن تمضي أربعة أشهر، فإن مضت فهي تطليقة.

                                                                                                                                                                                                                              وصح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الإيلاء هو أن يحلف ألا يأتيها أبدا. وصح عن عطاء أنه قال: الإيلاء إنما هو أن يحلف بالله على الجماع أربعة أشهر فأكثر، فإن لم يحلف فليس بإيلاء، فإن قال لها: أنت علي كظهر أمي إن قربتك. فقال حماد: ليس بشيء، وقال أبو الشعثاء: هو إيلاء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال رجل لعلي بن أبي طالب: تزوجت امرأة أخي وهي ترضع ابن أخي، فقلت: هي طالق إن قربتها حتى تفطمه. فقال علي: إنما أردت (الإصلاح لك) ولابن أخيك فلا إيلاء عليك، إنما الإيلاء ما كان في

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 374 ] غضب. وممن لم يراع ذلك إبراهيم وابن سيرين، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأبي سليمان، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عبد البر: وعن مالك: من قال لامرأته: والله لا أقربك حتى تفطمي ولدك. لم يكن موليا.

                                                                                                                                                                                                                              وهو قول الأوزاعي وأبي عبيد .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: وممن صح عنه أن: بمضي أربعة أشهر تبين بطلقة بائنة الحسن، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيب، وعكرمة، وعلقمة، والشعبي، وهو قول أبي حنيفة. وتعتد بعد انقضاء الأربعة الأشهر. وقال مسروق، وشريح، وعطاء: تعتد بثلاث حيض .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: كل الفقهاء -فيما علمت- يقولون: إنها تعتد بعد الطلاق عدة المطلقة إلا جابر بن زيد فإنه يقول: لا تعتد، يعني: إذا كانت قد حاضت ثلاث حيض في الأربعة الأشهر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال بقوله طائفة، وكان الشافعي يقول به في القديم، ثم رجع عنه، وقد روي عن ابن عباس مثله .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: والحر والعبد في الإيلاء كل واحد منهما من زوجته الحرة والأمة المسلمة أو الذمية الكبيرة أو الصغيرة سواء في كل ما ذكرناه; لأن الله تعالى عم ولم يخص، وما كان ربك نسيا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 375 ] وروينا عن عمر - رضي الله عنه -ولم يصح عنه- أنه قال: إيلاء العبد شهران. وروينا عنه أيضا أنه قال: إيلاء الأمة شهران، ولا يصح; لأنه من حديث حبان بن علي، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد فيما حكاه عنه الخلال في "علله": يروى عن الزهري أنه كان يقول: إيلاء العبد شهران، ولا أعلمه عن أحد غير الزهري.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: وصح عن عطاء أنه قال: لا إيلاء للعبد دون سيده، وهو شهران، وبه يقول الأوزاعي، والليث، ومالك، وإسحاق.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: الحكم في ذلك للنساء; فإن كانت حرة فإيلاء زوجها الحر والعبد أربعة أشهر; وإن كانت أمة فإيلاء زوجها الحر والعبد عنها شهران، وهو قول إبراهيم وقتادة والحسن والحكم والشعبي وحماد والضحاك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إيلاء الحر والعبد من الزوجة الحرة والأمة سواء، وهو أربعة أشهر، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وأبي سليمان وأصحابهم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال: ومن آلى من أربع نسوة له بيمين واحدة وقف لهن كلهن من حين يحلف، فإن فاء إلى واحدة سقط حكمها وبقي حكم البواقي، فلا يزال يوقف لمن لم يفئ إليها حتى يفيء أو يطلق، وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة; لأنها يمين واحدة على أشياء متغايرة، ولكل واحدة حكمها، وهو مول من كل واحدة منهن، ومن آلى من أمته فلا توقيف عليه; لأن الله قال: وإن عزموا الطلاق [البقرة: 227]

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 376 ] فصح أن حكم الإيلاء إنما هو فيمن يلزمه فيها الفيئة أو الطلاق وليس في المملوكة طلاق أصلا .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: اختلف العلماء فيمن طلق ثلاثا بعد الإيلاء ثم تزوجها بعد زوج، فقال مالك: يكون موليا، وهو قول حماد وزفر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يكون موليا، وإن قربها كفر يمينه، وهو قول الثوري (وقال) الشافعي في موضع: إذا بانت المرأة ثم تزوجها كان موليا، وفي موضع: لا يكون موليا، واختاره المزني; لأنها صارت في حال لو طلقها لم يقع طلاقه عليها.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم: إذا آلى وهي صغيرة لا يجامع مثلها لم يكن موليا حتى تبلغ الوطء، ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر منذ بلغت الوطء، قال: ولا يوقف الخصي إنما يوقف من قدر على الجماع.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي: إذا لم يبق من الخصي ما ينال به المرأة ما يناله الصحيح; بمغيب الحشفة فهو كالمجبوب فاء بلسانه، ولا شيء عليه; لأنه ممن (يجامع) مثله.

                                                                                                                                                                                                                              وقال في موضع آخر: لا إيلاء عن مجبوب، واختاره المزني. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا آلى وهو مريض بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر، أو كانت رتقاء، أو صغيرة ففيئه الرضا بالقول إذا دام به العذر قالوا:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 377 ] ولو كان أحدهما محرما بالحج وبينه وبين وقت الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا بالجماع، وكذا المحبوس وقال زفر: فيئته بالقول.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الثوري: إذا كان له عذر من مرض، أو كبر، أو حبس، أو كانت حائضا، أو نفساء فليفئ بلسانه، وهو قول ابن حي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي: إذا آلى، ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وكان لا يقدر على الجماع فليكفر عن يمينه، وهي امرأته. وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر، أو حاضت، أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الليث: إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر [فإنه] يوقف كما يوقف الصحيح، ولا يؤخر إلى أن يصح.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي: ولو آلى وهي بكر، وقال: لا أقدر على افتضاضها أجل أجل العنين. قال: وإذا كان ممن [لا] يقدر على الجماع وفاء بلسانه، ثم قدر وقف حتى يفيء أو يطلق.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وإذا حبس استأنف أربعة أشهر، وإن كان بينهما مسيرة أربعة أشهر وطالبه الوكيل فاء بلسانه وسار إليها كيفما أمكنه وإلا طلقت عليه .

                                                                                                                                                                                                                              فإذا آلى من امرأته ثم مات; فعن الشعبي فيما ذكره ابن أبي شيبة بإسناد جيد: تعتد أحد عشر شهرا .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية