الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5064 [ ص: 99 ] 4 - باب: من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه، إذا لم يعرف منه كراهية

                                                                                                                                                                                                                              5379 - حدثنا قتيبة، عن مالك، عن إسحاق بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: إن خياطا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعه -قال أنس: - فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة -قال:- فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح:9 \ 524] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث مالك إلى أنس - رضي الله عنه - إن خياطا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم -لطعام صنعه قال أنس: فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة -قال:- فلم أزل أحب الدباء من يومئذ.

                                                                                                                                                                                                                              قد سلف ذلك في البيوع، وتكرر في الباب ، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، ومن عادة البخاري -رحمه الله- أن يبوب أولا على أمر ثم يبوب بعد بابا آخر ينبه (به) على المراد منه. والجمع بين مختلفه ظاهرا، فذكر أولا حديث الأكل مما يلي الشخص ثم أعقبه بهذا الباب; لبيان جوازه في حالة إذا لم يعرف من أحد كراهة لذلك فهو مفسر له في الحقيقة، ودال على أن المراد بذلك إذا كان يأكل مع غير عياله ومن يتقزز جولان يده في الطعام، وأما إذا أكل مع أهله ومن لا مؤنة عليه منهم من خالص إخوانه، [ ص: 100 ] فلا بأس أن تجول يده فيه; استدلالا بهذا الحديث، وإنما جالت يده الكريمة فيه; لأنه علم أن أحدا لا ينكر ذلك، ولا يتقزز منه، بل كل مؤمن ينبغي له أن يتبرك بريقه الكريم، وما مسه بيده، ألا تراهم كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتبركون بها، فلذلك لم يتقززه مؤاكله له أن تجول يده في الصحفة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: هكذا هذا الحديث في "الموطأ" عند جميع رواته، زاد بعضهم فيه ذكر القديد -ورواه أبو نعيم عنه عن إسحاق عن أنس - رضي الله عنه -: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بمرق فيه دباء وقديد .. الحديث، وذكره البخاري أيضا كما سيأتي - وقد أدخله مالك في باب الوليمة في العرس، ويشبه أن يكون وصل إليه من ذلك علم، وقد روي عنه نحو هذا، وليس في ظاهر الحديث ما يدل عليه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا من عند البخاري أن هذا الخياط مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذكره في باب: الدباء، كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر في باب: من أضاف رجلا إلى طعام، وأقبل هو على عمله قال: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غلام له خياط، فأتاه بقصعة فيها طعام وعليه دباء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدباء قال: فلما رأيت ذلك جعلت أجمعه بين يديه . وذكره في باب القديد أيضا كما سيأتي، وهو موافق لما ترجم له هنا أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 101 ] ولمسلم: فجعلت ألقيه إليه ولا أطعمه.

                                                                                                                                                                                                                              وله: فقدم إليه خبز من شعير ومرق فيه دباء، وقديد. وله: قصعة فيها ثريد وعليه دباء .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "كتاب الأطعمة" للدارمي: قال أنس: وكان يعجبه الدباء، فجعلت آخذ الدباء فأضعه بين يديه، لما أعلم من إعجابه به.

                                                                                                                                                                                                                              وللترمذي من حديث حكيم بن جابر قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت عنده دباء يقطع قلت: ما هذا؟ قال: نكثر به طعامنا .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: في هذا الحديث إجالة اليد في الصحفة، وهذا عند أهل العلم لا يحسن إلا بالرئيس ورب البيت، وأيضا فالمرق والإدام وسائر الطعام إذا كان فيه نوعان أو أنواع فلا بأس أن تجول اليد فيه للتخيير مما وضع في المائدة من أصناف الطعام; لأنه قدم للأكل، وليأكل كل ما أراد، ولما كان في هذه الصحفة أنواع اللحم والقديد والدباء والثريد أو المرق، حسن بالآكل أن تجول يده فيما اشتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفنا الكلام فيه قبل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: فعله ذلك; لأنه كان يأكل وحده; لأن في الحديث أن الخياط أقبل على عمله. وقد أسلفنا عن أنس أنه قال: كنت ألقيه إليه ولا أطعمه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 102 ] وإقبال الخياط على عمله ليس سوء أدب منه ولا من غيره لو فعله; لإقراره -عليه السلام - على ذلك، ولم ينكره. وأكل المضيف مع الضيف ليس فيه إلا البسط لوجهه إن قدر عليه فهو أبلغ، ومن تركه فهو واسع.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              من تراجم البخاري على هذا الحديث باب من ناول أو قدم إلى أصحابه على المائدة شيئا.

                                                                                                                                                                                                                              ثم نقل عن ابن المبارك: لا بأس أن يناول بعضهم بعضا، ولا يناول من هذه المائدة إلى مائدة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: إنما جاز أن يناول بعضهم بعضا ممن على مائدة واحدة; لأن ذلك الطعام إنما قدم لهم بأعيانهم ليأكلوه، فقد صار من حقوقهم وهم فيه شركاء، فمن ناول صاحبه مما بين يديه فكأنه آثره بنصيبه وما يجوز له أكله، فمباح له ذلك. وقد قال -عليه السلام - لابن أم سلمة: "كل مما يليك". فجعل ما يليه من المائدة حلالا له. وأما من كان على مائدة أخرى فلا حق له في ذلك الطعام ولا شركة، فلذلك كره العلماء أن يناول رجل من كان على مائدة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ومن هذا نهيه - عليه السلام - عن الأكل من وسط الصحفة; فإن البركة تنزل في وسطها. قال الخطابي: هذا في حق من يأكل مع غيره; لأن وجه الطعام أطيبه وألينه، فإذا قصده الإنسان بالأكل كان مستأثرا على غيره، فإذا كان وحده فلا بأس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 103 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقول أنس - رضي الله عنه -: (فلم أزل أحب الدباء من يومئذ). فيه الحرص على الشبه بالصالحين والاقتداء بأهل الخير في مطاعمهم واقتفاء آثارهم في جميع أحوالهم; تبركا بذلك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية