الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5199 5518 - حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب بن أبي تميمة، عن القاسم، عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى الأشعري -وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء- فأتي بطعام فيه لحم دجاج، وفي القوم رجل جالس أحمر فلم يدن من طعامه، قال: ادن، فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه. قال: إني رأيته أكل شيئا فقذرته، فحلفت أن لا آكله. فقال: ادن أخبرك -أو أحدثك- إني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الأشعريين، فوافقته وهو غضبان، وهو يقسم نعما من نعم الصدقة، فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا، قال: "ما عندي ما أحملكم عليه". ثم أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب من إبل، فقال: "أين الأشعريون؟ أين الأشعريون؟ ". قال: فأعطانا خمس ذود غر الذرى، فلبثنا غير بعيد، فقلت لأصحابي: نسي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه، فوالله لئن تغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه لا نفلح أبدا. فرجعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، إنا استحملناك، فحلفت أن لا تحملنا، فظننا أنك نسيت يمينك. فقال: "إن الله هو حملكم، إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها". [انظر: 4133 - مسلم: 1649 - فتح:9 \ 645]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هو جنس واحده دجاجة، ويقع على الذكر والأنثى، وتجمع دجاجات، وداله مثلثة، والفتح والضم شهيران، والكسر حكاه غير واحد، وعبارة ابن التين أنها جمع دجاجة بفتح الدال على المعروف قال: وذكر في "الغريب المصنف": أن فيه لغة بكسر الدال. قال أبو علي في "البارع": إنما سميت الدجاجة; لأنها تقبل وتدبر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 488 ] ذكر في الباب حديث أبي قلابة، عن زهدم الجرمي -ووالده مضرب البصري- عن أبي موسى -واسمه عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري- قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل دجاجا. ثم ساقه عن أبي معمر -واسمه عبد الله بن عمرو المقعد- ثنا عبد الوارث، ثنا أيوب بن أبي تميمة، عن القاسم، عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى. مطولا، والحديثان في المغازي والخمس . والقاسم هو ابن عاصم بصري تميمي كليني ، أخو رياح، ابنا يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في الأول: (حدثنا يحيى، ثنا وكيع، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة) به. يريد يحيى بن موسى النخعي، وقيل: يحيى بن جعفر البلخي فيما ذكره الكلاباذي ، ونص أبو نعيم الحافظ أنه ابن جعفر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (لئن تغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه). يقال: تغفلته واستغفلته: تحينت غفلته أي: جعلناه غافلا عن يمينه. وقيل: سألناه في وقت شغله.

                                                                                                                                                                                                                              أما ترجمة الباب فما أورده واف. وليته ذكر الدجاج والخيل ولحوم الحمر، وغير ذلك من الأطعمة، فإنه أليق به، وإن كان لما ذكر هنا مدخلا من حيث الذكاة.

                                                                                                                                                                                                                              وقام الإجماع على حل لحم الدجاج وهو من رقيق المطاعم وناعمه، ومن كره ذلك من المتقشفين والزهاد فلا عبرة بكراهته، وقد

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 489 ] أكل منها سيد الزهاد، وأن يحتمل أن تكون جلالة، وإن نقل الطبري عن ابن عمر أنه كان لا يأكلها حتى يقصرها أياما; لأنها تأكل العذرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره: وكان يتأول أنها من الجلالة التي نهى الشارع عن أكلها، روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها. أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم والترمذي وقال: حسن غريب. ورواه الثوري عن ابن أبي يحيى، عن مجاهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، قال الدارقطني: وهو أشبه، وروى عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها أو يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة. رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد وخالفه تلميذه البيهقي فقال: ليس بالقوي .

                                                                                                                                                                                                                              وروى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه - عليه السلام - نهى عن أكل الإبل الجلالة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 490 ] فكان ابن عمر إذا أراد أن يأكل بيض الدجاجة قصرها ثلاثة أيام . وكره الكوفيون لحوم الإبل الجلالة حتى تحبس أياما.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي: أكرهه إن لم يكن أكله غير العذرة، أو كانت أكثر، وإذا كان أكثر علفها غيره لم أكرهه. وأكثر أصحابه على أن الكراهة كراهة تنزيه، وصحح بعضهم التحريم، وكرهه أيضا إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح فيما ذكره الدارمي وأحمد، وأبو حنيفة إلا إن حبست أياما. وقال مالك والليث: لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج وما يأكل الجيف. وكان الحسن البصري لا يرى بأسا بأكلها. قال أبو حنيفة: الدجاجة تخلط والجلالة لا تأكل غير العذرة، وهي التي تكره ، فالعلماء مجمعون على جواز أكل الجلالة، كذا وقع في كتاب ابن بطال، وقد سئل سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة، فقال: لا بأس بأكله .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: والعلماء مجمعون على أن حملا أو جديا، غذي بلبن كلبة أو خنزيرة أنه غير حرام أكله، ولا خلاف أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة. قال غيره: والمعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرم الله أعيان النجاسات المدركات بالحواس، فالدجاجة والإبل الجلالة وما شاكلها لا يوجد فيها أعيان العذرات، وليس ذلك بأكثر من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 491 ] النبات الذي ينبت في العذرة، وهو طاهر حلال بإجماع، ولا يخلو الزرع من ذلك، وإنما النهي عن الجلالة من جهة التقذر والتنزه لئلا يكون الشأن في علف الحيوان النجاسات، والنهي عن الجلالة ليس بقوي الإسناد كذا في كتاب ابن بطال وقد علمت ما فيه .

                                                                                                                                                                                                                              فروع: عندنا (كما) يمنع لحمها يمنع لبنها، وكذا بيضها، ويكره الركوب عليها بدون حائل . وأغرب ابن حزم فقال: لا يصح الحج عليها بخلاف المال المغصوب، وزعم أن الجلالة من ذوات الأربع خاصة ولا يسمى الطير ولا الدجاج جلالة، وإن كانت تأكل العذرة، فإذا قطع عنها أكلها وانقطع عنها الاسم حل أكلها وألبانها وركوبها; لما روينا من طريق ابن إسحاق، ثم ساق حديث مجاهد عن ابن عمر السالف، ومن طريق عكرمة عن مولاه مثله -يريد الحديث السالف- وفي رواية أيوب عن نافع عنه: نهى عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها. قال: وهذا فيه زيادة الركوب .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ورواه الدارمي في كتاب "الأطعمة" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة عن ظهورها وشحومها وكل شيء ينتفع به منها. وقال: إسناده وسط ليس بالقوي. ويخدش في قوله ما رواه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 492 ] ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن نافع، عن ابن عمر راوي الحديث أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن عدي عن نافع، عنه مرفوعا، وأعله بغالب بن عبيد الله الجزري وقال: متروك . وفيه مسعود بن جويرية ، وهو مجهول كما قال ابن القطان. قال الخطابي: وقد روي في حديث أن البقر الجلالة تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها، وقال إسحاق: لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل غسلا جيدا .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء) هو بالرفع، وأورده ابن التين بلفظ: (بيننا وبينه) وقال: يقرأ بالخفض على البدل من الضمير الذي في (بينه) وهو ضمير قبل الذكر، (وإخاء) ممدود تقول: آخيته إخاء، وضبط في بعض النسخ بالقصر وقال: ليس بصحيح.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (رجل أحمر). أي: أبيض، وهو لون العجم -يعني: الروم- يميل إلى الشقرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وهو يقسم نعما) هي الإبل والبقر والغنم، وقيل: الإبل خاصة. وقدمه ابن التين على الأول، قال الفراء: وهو ذكر لا يؤنث، وذكر غيره التأنيث.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فأعطانا خمس ذود غر الذرى) قال القزاز: الذود في الحديث: الواحد، ثم أنشد بيتا لا دليل له فيه، والعرب تجعله من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 493 ] الثلاثة إلى التسعة وقال الجوهري: ثانيها إلى العشرة . وقال ابن فارس: الثلاثة إلى العشرة . ومعنى (غر الذرى): بيض أعلى أسنمتها; لأن الأغر الأبيض، والذرى: جمع ذروة وهي أعلى السنام.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها") أي: حللت فلا تعقد على اليمين بالكفارة وفسره في موضع آخر فقال: كفرت عنها.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية