الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5259 5581 - حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن أبي حيان، حدثنا عامر، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : قام عمر على المنبر فقال: أما بعد، نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل. [انظر: 4619 - مسلم: 3032 - فتح 10 \ 35]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال: لقد حرمت (الخمر) ، وما بالمدينة منها شيء.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أنس - رضي الله عنهما - قال: حرمت علينا الخمر (حين حرمت) ، وما نجد - يعني: بالمدينة - خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر، وهما من أفراده.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي حيان حين حرمت واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي ثنا (أبو عامر) ، قال: قام عمر على المنبر فقال: أما بعد، نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 88 ] الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              فيه رد على الكوفيين في قولهم: إن الخمر من العنب خاصة وإن كل شراب يتخذ من غيره فغير محرم ما دون السكر منه، وهذا التفسير من عمر مقنع كما قال المهلب : ليس لأحد أن يسود فيقول: إن الخمر من العنب وحده; فهؤلاء الصحابة فصحاء العرب والفهماء عن الله ورسوله قد فسروا عين ما حرم الله، وقال: إن الخمر من خمسة أشياء، وقد أخبر الفاروق بذلك حكاية عما نزل من القرآن وتفسيرا للجملة وقال: الخمر ما خامر العقل، وخطب بذلك على منبره - عليه السلام - بحضرة الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم ولم ينكره أحد فصار كالإجماع.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا ابن عمر يقول: حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء، يعني: خمر العنب فإنه المشهور باسمها، وكذا قول أنس وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وممن روي عنه من الصحابة أن الخمر تكون من غير العنب وإن كان لا يخالف، فيهم عمر وابنه وعلي وأبو موسى وابن عباس وأبو هريرة وسعد وعائشة.

                                                                                                                                                                                                                              ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز في تابعي أهل المدينة من أهل الكوفة ابن مسعود روي عنه في نقيع التمر أنه خمر، وبه قال الشعبي وابن أبي ليلى والنخعي والحسن البصري وعبد الله بن إدريس الأودي وسعيد بن جبير وطلحة بن مصرف، كلهم قالوا: المسكر خمر، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعليه أهل الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وروى صفوان بن محرز قال: سمعت أبا موسى على المنبر يقول: ألا إن خمر أهل المدينة البسر والتمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 89 ] أهل اليمن البتع وهو العسل، وخمر الحبشة السكركة وهو الأرز .

                                                                                                                                                                                                                              قال إسماعيل بن إسحاق: فإذا تبين أن الخمر تكون من هذا كله وجب أن يجري كله مجرى واحدا، وأن لا نفرق بين السكر من العنب والسكر من غيره، والمزر يصنع من الشعير وهو الجعة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              أسلفنا أن الحكم في التحريم لا يتعلق بعين الخمر وكل ما أسكر فهو ملحق به.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: المحرم عصير العنب النيئ، فمن شرب منها ولو نقطة حد، وما عداها لا يحد إلا مما أسكر منه . وموضع الرد عليه من الحديث: أنهم كانوا يشربون بالمدينة الفضيخ وهو ما يتخذ من البسر والتمر، فلما جاءهم منادي رسول الله: أن الخمر حرمت امتنعوا وكسروا الجرار ولم ينكروا ولا قالوا: إنما كنا نشرب الفضيخ، بل قبلوا وامتنعوا، فلولا أنهم عندهم خمر ما امتنعوا منه، فإذا ثبت بالسنة وإجماع الصحابة أن هذه الأشربة تسمى خمرا فهي داخلة في قوله تعالى: إنما الخمر [المائدة: 90] إلى قوله: فاجتنبوه [المائدة: 90] فهو حرام بنص القرآن وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: وذهب غير واحد من فقهاء الكوفة إلى أن الخمر إنما هي من العنب والرطب. وقول الفاروق: والخمر ما خامر العقل; دال على جواز إحداث الاسم بالقياس، أخذه من طريق الاشتقاق، وزعم قوم أن العرب لا تعرف النبيذ المتخذ من التمر خلا، فقال: إن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 90 ] الصحابة الذين سموا الفضيخ خمرا عرب فصحاء، فلو لم يصلح هذا الاسم لم يطلقوه عليها .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حبيب: لا تشرب الفضيخ وإن لم تسكر; لأنه البسر والرطب جميعا يهشان لينتبذان، وهما الخليطان اللذان نهى الشارع عنها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين : والذي ذكر أهل اللغة أن الفضيخ شراب يتخذ من بسر وحده من غير أن تمسه النار.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر صاحب "الهداية" من الحنفية أن الأشربة المحرمة أربعة: الخمر وهو عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، وهو قول أبي حنيفة ، والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو الطلاء، ونقيع التمر وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلا، فأما الخمر فماهيتها أنها من ماء العنب إذا صار مسكرا، وهذا عندنا، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر; لقوله - عليه السلام - : "كل مسكر خمر" وقوله: "إن الخمر من هاتين الشجرتين" وأشار إلى الكرم والنخلة ; ولأنه من مخامرة العقل وهو موجود في كل مسكر قال: ولنا أنه خاص بإطباق أهل اللغة على ما ذكرنا; ولهذا اشتهر استعماله فيه وفي غيره، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها [ ص: 91 ] ظنية. قال: وإنما سمي الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل على ما ذكرتم، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيه، فإن النجم منشق من (النجوم) ، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف، لا بكل ما ظهر، وهذا كثير النظير، قال: والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين، قلت: لا يقبل منه، فمن صححه حجة عليه، والثاني أريد لبيان الحكم إذ هو اللائق بمنصب الرسالة، وعند الشيخين: لا يشترط القذف بالزبد، والخمر حرام غير معلولة بالسكر ولا موقوفة عليه، ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: السكر بها حرام; لأن به يحصل الفساد. وهذا لغو; لأنه جحود الكتاب لأنه سماه رجسا، والرجس ما هو محرم العين.

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاءت السنة المتواترة بتحريمها، وعليه انعقد إجماع الأئمة; ولأن قليله يدعو إلى كثيره، وهذا من خواص الخمر؛ ولهذا يزداد لشاربها اللذة بالاستكثار منها بخلاف سائر المطعومات، ثم هو غير (معلول) عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي يعديه إليها قال: وهذا بعيد; لأنه خلاف السنة المشهورة.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: بل الذي قاله هو البعيد، وما قاله الشافعي موافق للسنة المشهورة كأحاديث الباب وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وتعليله لتعدية الاسم والتعليل في الأحكام لا في الأسماء

                                                                                                                                                                                                                              قال: وهي نجسة نجاسة مغلظة كالبول; لثبوتها بالدلائل القطعية، يكفر مستحلها; لإنكاره الدليل القطعي، ويسقط عوضها في حق

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 92 ] المسلم إذا (أتلفها) ، قال: والأصح أنه مال; لأن الطباع تميل [إليها] وتضن بها .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: ولا يحل كسر أوانيها، ومن كسرها من حاكم أو غيره فعليه ضمانها لكن يهريق ويغسل الفخار والجلود والعيدان والحجر، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يكسر الفخار والعود وتشق الجلود ويغسل ما سوى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              دليل قولنا أن الشارع لما أخبر الرجل بتحريمها فتح المزادة وأهرقها ولم يأمره بخرقها، وقد نهى عنإضاعة المال.

                                                                                                                                                                                                                              حجة المخالف أن عكرمة قال: كسر النبي - صلى الله عليه وسلم - كوزا فيه شراب وشق المشاعل يوم خيبر.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عمر أنه - عليه السلام - شق زقاق الخمر، وكذا رواه أبو هريرة وجابر; ولا يصح كل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر [أحد طرقه] فيه ثابت بن يزيد الخولاني ولا ندري من هو ، والثاني: من رواية ابن لهيعة عن أبي طعمة نسير بن ذعلوق

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 93 ] وهو لا شيء .

                                                                                                                                                                                                                              والثالث: من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي - وهو هالك - عن طلق وهو ضعيف ، وحديث أبي هريرة فيه عمر بن صهبان وهو ضعيف ، ولا يصح في هذا الباب شيء .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: عمر ونسير وثابت وطلق ثقات، وروى ابن أبي عاصم من حديث سفيان عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس، أن أبا طلحة سأل رسول الله عن أيتام ورثوا خمرا أيجعله خلا فكرهه، قال: أبو عمر: هذا صحيح . وأخرجه مسلم في صحيحه أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              قال في "الهداية": ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمره لا يحل له أن يأخذه ولا للمديون أن يؤديه; لأنه ثمن باطل وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة ولو كان الدين على ذمي يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم هو الطالب يستوفيه; لأن بيعها فيما بينهم جائز.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 94 ] فرع:

                                                                                                                                                                                                                              يحرم الانتفاع بها; لأن الانتفاع بالنجس حرام، ولأنه واجب (الاجتناب) وفي الانتفاع إقرار .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على نجاسته وأنه كالدم والميتة ولحم الخنزير إلا ما روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن في لفظ: من الخمر شيء (لم أر له ذكرا) ; لأنه خلاف إجماعهم، وقد جاء عنه في مثل رءوس الإبر من لفظ البول نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              يحد شاربها وإن لم يسكر; لقوله - عليه السلام - : "من شرب الخمر فاجلدوه" وعليه قام الإجماع، والطبخ لا يؤثر فيها لأنها للمنع من شرب الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها، إلا أنه لا حد فيها بما لم يسكر منه على ما قالوا.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              لا يجوز تخليلها عندنا خلافا لهم.

                                                                                                                                                                                                                              وعند مالك فيما حكاه ابن حزم عنه: إن تعمد تخليلها لم يحل أكل ذلك الخل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو ثور: لا تؤكل تخللت أو خللت، قال ابن حزم: وقولنا هو قول أبي حنيفة وأبي سليمان، روي أن عليا - رضي الله عنه - كان يصطبغ بخل خمر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 95 ] وعن أبي الدرداء: لا بأس به، وكذا قالت عائشة وابن عمر وابن سيرين وهو قول الحسن وابن جبير .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم فيما حكاه ابن عبد البر، عن مالك: لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر لكن يهريقها، وفي رواية أشهب عنه: إذا خللها النصراني فلا بأس وكذا لو خللها مسلم، والصحيح رواية ابن القاسم، وهذه رواية سوء ولا تصح في هذه المسألة إلا بما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              وأما العصير إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخه ويسمى الباذق والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ، وكل ذلك حرام عندنا إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وإذا اشتد، على الاختلاف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي: إنه مباح وهو قول بعض المعتزلة لأنه مشروب طيب وليس بخمر، ولنا أنه رقيق مطرب، ولهذا أن الفساق تجمع عليه فيحرم شربه دفعا لفساد التعلق به.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما نقيع التمر وهو السكر وهو النيء من ماء التمر أي الرطب فهو حرام.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 96 ] وقال شريك بن عبد الله: مباح; لقوله تعالى تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [النحل: 67] ولنا إجماع الصحابة (و) ما رويناه من قبل، والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها، وقيل: أراد به التوبيخ معناه - والله أعلم - تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما نقيع الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلا، ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي إلا أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها; لأن حرمتها اجتهادية وحرمة الخمر قطعية، واعترض هذا ابن حزم بأن قال: هذا لا شيء; لأنا لو وجدنا إنسانا غاب عنه تحريم الخمر فلم يبلغه لما كفرناه إلا إذا بلغه وأصر، وكذا النبيذ لا يكفر من جهله إلا بعد بلوغه والإصرار عليه، قال في "الهداية": ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر، ويحد شارب قطرة من الخمر، ونجاستها خفيفة في رواية، وغليظة في أخرى، ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية