الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5295 5618 - حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، أخبرنا أبو النضر، عن عمير - مولى ابن عباس - عن أم الفضل بنت الحارث أنها أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن، وهو واقف عشية عرفة، فأخذ بيده فشربه. زاد مالك، عن أبي النضر: على بعيره. [انظر: 1658 - مسلم: 1123 - فتح 10 \ 85]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث شيخه أبي نعيم، وهو الفضل بن دكين، ثنا مسعر - وهو ابن كدام بن ظهير الهلالي - عن عبد الملك بن قيس، عن النزال - وهو ابن سبرة الهلالي. انفرد به البخاري - قال: أتى علي - رضي الله عنه - على باب الرحبة، فشرب قائما فقال: إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلت.

                                                                                                                                                                                                                              ثم رواه من طريق آخر عنه، وفيه عن علي أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 191 ] بماء، فشرب وغسل وجهه ويديه - وذكر رأسه ورجليه - ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل ما صنعت.


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث ابن عباس: شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - قائما من زمزم.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ترجم باب: باب من شرب وهو واقف على بعيره.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث أبي النضر سالم، عن عمير - مولى ابن عباس - عن أم الفضل بنت الحارث - وهي لبابة - أنها أرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن وهو واقف عشية عرفة، فأخذ بيده فشربه. زاد مالك، عن أبي النضر: على بعيره.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الذي أراه تقديم الأحاديث الواردة في الباب، ثم أجمع بينها فأقول: روى الترمذي مصححا، عن كبشة: دخل علي رسول الله فشرب من في قربة معلقة .

                                                                                                                                                                                                                              وروته كلثم أيضا أخرجه أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كلثم قالت: دخل علي رسول الله فشرب من قربة معلقة وهو قائم.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن عمر: كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام. أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. قال: وروى هذا الحديث أبو البزري، عن ابن عمر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 192 ] وهذا أخرجه (صاحب "المنتقى" ابن الجارود) الذي زاده على الصحيحين، وابن حبان في "صحيحه" .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه سعد بن أبي وقاص أنه - عليه السلام - كان يشرب قائما، أخرجه الضياء في " صحيحه" .

                                                                                                                                                                                                                              وعبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني عن الحسن بن عبد الأعلى وآخر معه عن عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن عيسى بن عبد الله ابن أنيس، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى قربة معلقة فخنثها ثم شرب وهو قائم .

                                                                                                                                                                                                                              وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله شرب قائما وقاعدا. أخرجه الترمذي وقال: حسن .

                                                                                                                                                                                                                              وعائشة: أنه - عليه السلام - شرب قائما وقاعدا. أخرجه أبو علي الطوسي من حديث الزبيدي قال: حدثني مكحول: أن مسروق بن الأجدع حدثه عن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 193 ] عائشة، ثم قال: حديث غريب.

                                                                                                                                                                                                                              وأم سليم أخرجه ابن شاهين من حديث ابن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عبد الكريم - يعني: الجزري - عن البراء ابن بنت أنس، عن أنس: أن أم سليم حدثتهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليهم فأتي بقربة فشرب قائما .

                                                                                                                                                                                                                              وعنده أيضا أنه - عليه السلام - مر ببرمة تفور بلحم فأخذ منهم قطعة، فلم يزل يلوكها حتى دخل في الصف.

                                                                                                                                                                                                                              وأم المنذر قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولي دوال معلقة فقام فأكل منها، أخرجه أبو داود بإسناد حسن .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه ابن أبي عاصم من حديث ابن عباس أنه - عليه السلام - كان يمر بالقدر فيتناول منها العرق فيصيب منه وهو يريد الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              ولأبي محمد بن أبي حاتم الرازي بإسناد جيد من حديث عبد الله بن السائب بن خباب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام إلى فخار فيها ماء فشرب قائما.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه آثار عن الصحابة وغيرهم أيضا:

                                                                                                                                                                                                                              ففي "الموطأ": أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - كانوا يشربون قياما، وكان سعد بن أبي وقاص وعائشة - رضي الله عنهما - لا يريان بذلك بأسا .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي جعفر القاري قال: رأيت عبد الله بن عمر يشرب سويقا قائما. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير: أن أباه شرب وهو قائم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 194 ] وفي "المصنف" لوكيع بن الجراح، عن عباد بن منصور قال: رأيت سالم بن عبد الله شرب وهو قائم.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا ابن عجلان قال: سألت إبراهيم عن الشرب قائما؟ فقال: لا بأس به، إن شئت قائما، وإن شئت قاعدا .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مصنف ابن أبي شيبة" حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن واقد، عن زاذان أنه قال: لا بأس بالشرب قائما.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا أبو سعيد الهمذاني قال: رأيت الشعبي يشرب قائما وقاعدا.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا غندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سألت طاوسا وسعيد بن جبير عن الشرب قائما، فلم يريا به بأسا.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا يحيى بن يمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: قال لي سعيد بن جبير: اشرب قائما.

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا أبو الأحوص، عن عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال: رأيت الحسين بن علي يشرب قائما. وحدثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نشرب ونحن قيام، ونحن نمشي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسلف عن الترمذي .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي خلاف ذلك; وكأن البخاري لمحه بالترجمة مما ليس على شرطه، ففي أفراد مسلم من حديث همام، عن قتادة، عن أنس أنه - عليه السلام -

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 195 ] زجر عن الشرب قائما
                                                                                                                                                                                                                              . وله أيضا عن همام، ثنا قتادة، عن أبي عيسى الأسواري، عن أبي سعيد مثله . وله أيضا من حديث أبي غطفان المري سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يشربن أحدكم قائما من نسي فليستقئ" .

                                                                                                                                                                                                                              وللأثرم، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عنه مرفوعا: "لو يعلم الذي يشرب قائما لاستقاءه" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي زياد، عن أبي هريرة : أن رجلا شرب قائما، فقال له عليه السلام: "أتحب أن يشرب معك الهر؟ " قال: لا. قال: "قد شرب معك من هو شر منه الشيطان" .

                                                                                                                                                                                                                              وللترمذي من حديث سعيد، عن قتادة، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود بن المعلى أنه - عليه السلام - نهى عن الشرب قائما.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: حسن غريب، وهكذا روى غير واحد هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبي مسلم، عن الجارود أنه - عليه السلام - قال: " ضالة المؤمن حرق النار" وقد سلف عن أم قيس خلافه، وذكر أنه روى ذلك أيضا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رواية

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 196 ] شريك، عن حميد عنه وهو مروي في "مسند البزار": أنه شرب لبنا، فقال: فقد يدعى النسخ لكن يحتاج إلى معرفة التاريخ.

                                                                                                                                                                                                                              قال الأثرم في "ناسخه": حديث أنس في الكراهة جيد الإسناد إلا أنه قد جاء عنه خلافه وأنه - عليه السلام - شرب وهو قائم، فلما جاءت عنه أحاديث الرخصة فقد يمكن أن يكون هذا أصح الخبرين، وإن كان حديث الكراهة أثبت، ألا ترى أنه ربما روى الليث حديثا فيخالفه فيه من هو دونه فتكون رواية من هو دونه أصوب، وليس ذلك في كل شيء، وسيفتح لك منه بابا قد كان سالم يقدم على نافع، وقد قدم نافع في أحاديث على سالم فقيل: نافع هو فيها أصوب. وكان سفيان بن سعيد يقدم على شريك في صحة الرواية تقديما شديدا، ثم قضي لشريك على سفيان في حديثين ومثله نمير.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي عيسى الأسواري، عن أبي سعيد فليس هو بالمشهور بالعلم ولا نعرف له عن أبي سعيد غير هذا الحديث وآخر . وقال أحمد: لا أعلم روى عن أبي عيسى غير قتادة ومن كان موصوفا بهذا من غير أصحابه، كما لا يقبل حديثه جماعة من العلماء.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي هريرة فقد سلف في لفظ ما يوجب التوقف عن العمل به لاسيما ورواية عمر بن حمزة وهو ممن قال فيه أحمد:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 197 ] أحاديثه مناكير ، وضعفه جماعة منهم ابن معين والنسائي .

                                                                                                                                                                                                                              ولما ذكر الأثرم حديث معمر، عن الأعمش المذكور قبل، قال: كان معمر يضطرب في حديث الأعمش ويخطئ فيه، وقد تفرد به هنا، وأيضا أبو زياد ليس المشهور في الحديث ولا أعرف له عن أبي هريرة غيره، ثم أبين من ذلك أنه سئل أبو هريرة عن الشرب قائما؟ فقال: لا بأس به، فكان هذا الخبر ساقطا ; إذ لا يجوز لأبي هريرة ولا لغيره من المسلمين أن يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا ويفتي بخلافه; إلا لشيء ظهر له.

                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر الطحاوي في "مشكله" ما يبين العلة في كراهة الشرب قائما، وهو أنه شرب ولم يسم، فقال له - عليه السلام - .. الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول المازري عن بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة . فلا يساوي سماعه; لأن الأحاديث لا ترد بالاحتمالات، قال: ولا خلاف بين أحد من أهل العلم أنه ليس عليه أن يستقيء.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث الجارود فقد رده الطوسي بأنه لما ذكر حديث ابن الشخير إثر حديث قتادة، عن أبي مسلم قال: هو أشبه.

                                                                                                                                                                                                                              قال الأثرم: ونرى مع هذا أنه إن كانت الكراهة بأصل ثابت أن الرخصة بعدها; لأنا وجدنا العلماء من الصحابة على الرخصة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 198 ] ولئن سلمنا صحة الكراهة فيكون محمولا على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، كما ذكره الطبري في "تهذيبه"; قال: ولم يرد أحد الخبرين ناسخا للآخر، ولا يجوز أن يكون منه - عليه السلام - تحريم شيء بعد إطلاقه أو عكسه، ثم لا يعلم أمته أي ذلك الواجب عليهم العمل به.

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي في سبب النهي عن ذلك حديث فيه نظر رواه بقية عن إسحاق بن مالك، عن محمد بن إبراهيم، عن الحارث بن فضيل، عن جعفر بن عبد الله، عن ابن عمر مرفوعا: "من أصابه داء في إحدى ثلاث لم يشف: أن يشرب قائما، وأن يمشي في نعل واحدة أو يشبك بين أصابعه" .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث وإن كان مما لا يعتمد عليه لضعفه، فإن كان في الإجماع حجة على أن النهي عن الشرب قائما على غير وجه التحريم، منهم من أوله وذكر أبو الفرج الثقفي في "نصرة الصحاح" أنه أراد بقوله: قائما: ماشيا، قال تعالى: إلا ما دمت عليه قائما [آل عمران: 75] أي: مواظبا بالمشي عليه، والعرب تقول: قم في حاجتنا. أي: امش فيها.

                                                                                                                                                                                                                              ويقال: قام في هذا الأمر وقعد. وتكون علته أنه لا يتمكن من الشرب فندب الشارع إلى الطمأنينة للتمكن منه.

                                                                                                                                                                                                                              وذهب بعضهم - فيما حكاه القرطبي - إلى أن النهي عن ذلك; مخافة

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 199 ] شرقة أو يمثل له وجع في كبده أو حلقه، وشربه قائما لأمنه من ذلك ، وقال ابن بطال : إنما رسم البخاري هذا الباب; لأنه قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار فيها كراهة الشرب قائما، فلم يصح عنده وصحت عنده أحاديث الإباحة في ذلك، وعمل بها الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال بها أئمة الفتوى.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبري: عن عمر أنه شرب قائما، وعن علي وسعد وابن عمر وعائشة وأبي هريرة مثله، وعن إبراهيم وطاوس وسعيد بن جبير مثله أيضا، وروي عن أنس كراهته، وعن أبي هريرة مثله، وبه قال الحسن البصري. والدليل على جواز أن الأكل مباح قائما - وعلى كل حال - فكذلك الشرب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين : فعله ذلك لبيان الجواز، وكذا قال الخطابي : إنه نهي تأديب; لأنه أحسن وأرفق بالشارب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القرطبي: لم يصر أحد من العلماء إلى أن النهي للتحريم، وإن كان جاريا على أصول الظاهرية والجمهور على الجواز، فمن السلف أبو بكر وعمر وجمهور الفقهاء متمسكين بشربه - عليه السلام - قائما من زمزم، وكلهم رأوا في هذا الفعل منه متأخرا عن أحاديث النهي، فإنه كان في حجة الوداع، ورواية ابن عباس وصحبته متأخرة عن صحبة أولئك فهو ناسخ، وتحقق بذلك فعل الخلفاء الأربعة، ويبعد أن يخفى عليهم تلك الأحاديث .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 200 ] وقد قال أبو عمر، عن مالك: إذا أعيانا أمر ولا نعرف الناسخ فيه من المنسوخ نظرنا إلى فعل الشيخين، فعلمنا أنه الآخر من الأمرين ، فكيف بالصحابة الباقين وقد قال - عليه السلام - : "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" وهذا وإن لم يصلح للنسخ فيصلح لترجيح أحد الحديثين على الآخر، ويكون النهي هنا يقتضي التفرقة ومن خبر وهو ابن حزم وزعم أن حديث النهي نسخ الآخر بقوله: لا يحل الشرب قائما فأما الأكل مباح، ثم قال: فإن قيل: قد صح عنعلي وابن عباس أنه - عليه السلام - شرب قائما.

                                                                                                                                                                                                                              قلنا: نعم، والأصل إباحة الشرب على كل حال من قيام وقعود وإضجاع، فلما صح النهي عنه قائما كان ذلك - بلا شك - ناسخا للإباحة، مجال مقطوع به أن يعود المنسوخ ناسخا ثم لا يثبته، وأقل ما في هذا على أصول المخالفين أن لا يترك اليقين للمظنون وهم على يقين من نسخ الإباحة السابقة، ولم يأت في الأكل نهي إلا عن أنس من قوله . فيتوقف في قوله كما قدمنا للجهل بالتاريخ، ولأنه لا يصار إلى النسخ إلا مع إمكان عدم الجمع بين الأحاديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 201 ] وهنا أمكن كما سلف على أن جماعة من العلماء أثبتوا النسخ، وليس أحد القولين أولى من الآخر، وقد أسلفنا قول الأثرم وغيره، وقال ابن شاهين: هذا حديث مشكل نسخه; لأنه قد صح عن الشارع النهي عنه وصح عنه فعله، وأن أصحابه كانوا يفعلون ذلك لإباحة ذلك قائما أقرب إلى أن يكون نسخه النهي; لأنه لو كان النهي ثابتا - وهو آخر في الأمرين - لما كان الصحابة يفعلون ذلك، ولو كان شربه قائما دون غيره لما جاز لأصحابه أن يشربوا قياما; لأنهم كانوا يفعلون هذا على عهده - عليه السلام - ، فهذا أشبه أن يكون ناسخا للنهي.

                                                                                                                                                                                                                              وفي قول ابن حزم: الشرب قائما مكروه لا يحل.

                                                                                                                                                                                                                              عجبت!! يرده فعله - عليه السلام - وبعده الصحابة والتابعون - ولا تاريخ صحيح - وكذا الأربعة من المذاهب ومن تبعهم; ولم يبلغنا عن أحد منهم فيما نعلم كراهته إلا ما حكي عن أبي هريرة وأنس وقد أسلفنا عنهما خلاف ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وعن الحسن في "مصنف ابن أبي شيبة" وجد كراهته، ولعله إنما كرهه من جهة الطب مخافة ضرر وهو أليق بعلمه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف عن إبراهيم النخعي ذلك، وهذا يوضح لك كراهة الحسن على أنا قدمنا عن إبراهيم عدمها، وهذا من شذوذ ابن حزم من بين الأئمة ولا نعتد به، وقد أفردت المسألة بالتأليف، وأنشدنا بعض شيوخنا:


                                                                                                                                                                                                                              اشرب قياما تابعا سنن الهدى ودع ابن حزم والذي يتقوله فالجزم في هذا المقام خلافه
                                                                                                                                                                                                                              وهو الصواب أتى به منقوله



                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 202 ] وأما من زعم أن شربه من زمزم كان لعذر الزحام والوحل فغير جيد، وقد قاله هو في مسألة: إن تزوجت فلانة فهي طالق، قالوا: جوزناه; لأنه ضيق على نفسه. فأجاب: أين وجدتم أن الضيق يفسخ الحرام؟!

                                                                                                                                                                                                                              وقد فعل ذلك بالمدينة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي: أما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسيا قائما ليس عليه أن يتقيأ. وأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنعوا كونها مستحبة، ثم إنه يستحب لمن شرب قائما ناسيا أو متعمدا أن يستقيء، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن العامد يخالفه بل هو للتنبيه على غيره من باب أولى; لأنه إذا أمر به الناسي وهو غير مخاطب فالعامد المكلف للمخاطب أولى .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقع في "صحيح مسلم"، قال قتادة: فقلنا: لا يسن الأكل. قال: ("أشر أو أخبث" ) بالألف، والمعروف عند علماء العرب شر بدونها، وكذا خير، قال تعالى: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا [الفرقان: 24]، وقال: من هو شر مكانا [مريم: 75] ولكن هذه اللفظة وقعت هنا على الشك فإنه قال: أشر أو أخبث فشك قتادة في أن أنسا قال: أشر أو أخبث، فلا يثبت عن أنس أشر بهذه الرواية إلا أن تثبت هذه اللفظة من غير شك هو عربي صحيح، وذلك لغة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 203 ] قلت: وقتادة معروف النسب في بني شيبان ولهذا نظير فما لا يكون معروفا عند النحويين وجاريا على قواعدهم، وقد صحت به الأحاديث فلا ترد إذا ثبت بل يعلل بقلة الاستعمال ونحو ذلك؛ إذ لم يحيطوا بكلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما يفعله غيره عن العرب.

                                                                                                                                                                                                                              ووقع في كتاب الترمذي: أشد بالدال .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ترجم البخاري على حديث أم الفضل: باب: الشرب في الأقداح أيضا، وإذا جاز الشرب قائما بالأرض فالشرب على الدابة أحرى بالجواز; لأن الراكب أشبه بالجالس.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله فيه: (زاد مالك عن أبي النضر: (على بعيره)) يريد به: ما خرجه في الحج: عن القعنبي، عن مالك، عن أبي النضر، به ، وبهذه الرواية طابق الترجمة، ولو لم يعلم أن طوافه - عليه السلام - كان على بعير لكان الحديث مستغنيا عن التعليق ومناسبا لباب: الشرب من قيام، وقال ابن العربي: قوله: (شرب وهو قائم على بعيره) لا حجة فيه; لأن المرء على بعيره قاعد غير قائم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (على باب الرحبة) هو بإسكان الحاء، قال الجوهري: الرحب بالضم: السعة، والرحب بالفتح: الواسع نقول منه: وبلد رحب وأرض رحبة، ثم قال: والرحبة بالتحريك رحبة المسجد وهي ساحته والجمع: رحب ورحبات .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 204 ] فعلى هذا نقرأ ما في الأصل بالسكون، كما قدمناه; لأنه أراد الأرض المتسعة، أو يريد: أنها صارت رحبة بالكوفة بمنزلة الرحبة للمسجد فتقرأ بالتحريك.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين : وهذا هو البين; لأنه تبين في الحديث الثاني أنه كان جالسا في رحبة الكوفة، ولا فرق بين رحبة الكوفة ورحبة المسجد.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (ثم قعد في حوائج الناس)، هو قول الأصمعي، وقال: إنه مؤكد وإنما أنكره; بخروجه عن القياس، وإلا فهو كثير في كلامهم نهارا، والمرء أمثل حين يقضي حوائجه من الليل الطويل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس أو الجوهري: الجمع: حاج وحاجات وحوائج. قال الجوهري: على غير قياس كأنهم جمعوا: حائجة، وذكر قول الأصمعي المتقدم، وزاد: حوج ، وقال الهروي: قيل الأصل فيه: حائجة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن ولاد: الحوجاء: الحاجة، وجمعها: حواجي بالتشديد والتخفيف .

                                                                                                                                                                                                                              قال: ويروى أن حوائج مقلوبة من حواجي، كقولهم: سوائع وسواعي.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية