الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5569 5913 - حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثني ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس - رضي الله عنهما - فذكروا الدجال، فقال: إنه مكتوب بين عينيه كافر. وقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذاك، ولكنه قال: "أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبي". [انظر: 1555 - فتح: 10 \ 357]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 139 ] أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - (ليس بالطويل) . وفيه: وليس بالجعد القطط وقد سلف في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث البراء - رضي الله عنه - : ما رأيت أحدا أحسن في حلة حمراء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال أبو عبد الله قال بعض أصحابي، عن مالك: إن جمته لتضرب قريبا من منكبيه. قال أبو إسحاق: سمعته يحدث غير مرة، ما حدث به قط إلا ضحك. قال شعبة: شعره يبلغ شحمة أذنيه.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - قال: "أراني الليلة عند الكعبة، فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال" إلى أن قال: "ثم إذا أنا برجل جعد" الحديث، وسلف أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - كان يضرب شعره منكبيه.

                                                                                                                                                                                                                              ذكره من طريقين عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وثالث: كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا.

                                                                                                                                                                                                                              ورابع: كان شعره رجلا لا جعد، ولا سبط.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 140 ] وخامس: ليس فيه ذكر الجعد فلا وجه لإيراده هنا. وفيه: لا جعد ولا سبط وكان بسط الكفين.

                                                                                                                                                                                                                              كذا لأكثرهم. ولبعضهم: (سبط الكفين) بدل بسط، وشك المروزي فقال: لا أدري (بسط) أو (سبط).

                                                                                                                                                                                                                              قال عياض: والكل صحيح المعنى; لأنه روي بعد: (شثن الكفين) أي: غليظهما .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا يدل على سعتهما وكبرهما، وروي: (سابل الأطراف) وهذا موافق لمعنى (سبط).

                                                                                                                                                                                                                              ثم رواه من حديث فيه معاذ بن هانئ - بصري، انفرد به البخاري - [عن همام، عن] قتادة عن أنس، أو عن رجل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ضخم القدمين حسن الوجه لم أر بعده مثله، قال هشام: عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شثن القدمين والكفين، وقال أبو هلال: ثنا قتادة عن أنس، أو جابر بن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ضخم الكفين والقدمين لم أر بعده شبها له. ولا وجه لذكرهما هنا.

                                                                                                                                                                                                                              وروى تعليق هشام الإسماعيلي من حديث علي بن بحر عنه، ثم ساق من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - السالف: "وأما موسى فرجل آدم جعد .. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي أحاديث الباب أنه - عليه السلام - كانت له جمة تبلغ قريبا من منكبيه، وقيل: تبلغ شحمة أذنيه. وقيل: يضرب شعره منكبيه. وليس ذلك

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 141 ] بإخبار عنه في وقت واحد، وإنما ذلك إخبار عن أوقات مختلفة يمكن فيها زيادة الشعر بغفلته عن قصه، فكان إذا غفل عنه بلغ منكبيه، فإذا تعاهده وقصه بلغ شحمة أذنيه أو قريبا من منكبيه، فأخبر كل واحد عما شاهده وعاين، وذكر - عليه السلام - أن عيسى بن مريم - عليه السلام - كانت له لمة حسنة قد رجلها، وأن موسى كان آدم جعدا، فدل أنه كانت له لمة، وأن الجعودة لا تتبين إلا في طول الشعر، وهذه الآثار كلها تدل أن اتخاذ اللمم وترجيلها من سنن النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله في صفته عليه الصلاة والسلام: ليس بالأبيض الأمهق. يعني أن لونه ليس بالشديد البياض الفاحش الخارج عن حد الحسن، وذلك أن المهق من البياض هو الذي لا يخالطه شيء من الحمرة كلون الفضة.

                                                                                                                                                                                                                              والقطط - بفتح الطاء وكسرها - الشعر الشديد الجعد، وقيل: الذي كان شعرات رأسه زبيبة، حكاه الداودي.

                                                                                                                                                                                                                              والسبط: الجعد بفتح الباء وإسكانها.

                                                                                                                                                                                                                              والآدم: الأسمر.

                                                                                                                                                                                                                              (فصل) :

                                                                                                                                                                                                                              قوله في حديث ابن عباس في حق الدجال: (كأنها عنبة طافية). يريد: بارزة قد برزت وطفت كما يطفو الشيء فوق الماء.

                                                                                                                                                                                                                              وترجيل الشعر: مشطه وتقويمه، يقال: شعر رجل - بفتح الجيم وكسرها - مسرح. عن صاحب "العين" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 142 ] واختلف في معنى المسيح ابن مريم على أقوال سلفت ونذكر منها هنا (بعضها) :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ، قاله ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: المسيح: الصديق، قاله النخعي.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: لأنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها، قاله ثعلب.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، ذكره كله ابن الأنباري. وقيل: لأنه مسح بالبركة حين ولد. وقيل: خرج من بطن أمه وقد مسح بالدهن. وقيل: لحسنه. وقيل: لأن زكريا مسحه. وقيل: للسيد المسوح. وقيل: لأنه كان ذا خمص برجليه، والأخمص جفاء عن الأرض من باطن الرجل. وقيل: اسم خصه الله به.

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: سمي مسيحا; لأنه كان أمسح الرجل، فلم يكن لرجله أخمص، وهو ما يتجافى عن الأرض من وسطها فلا يقع عليها، (وهذا سلف) . قال: وإنما سمي الدجال مسيحا، لأن إحدى عينيه ممسوحة، والأصل فيه مفعول فصرف إلى فعيل.

                                                                                                                                                                                                                              قال ثعلب: والدجال مأخوذ من قولهم: دجل في الأرض، ومعناه: ضرب فيها وطافها. وقال مرة أخرى: قد دجل إذا لبس وموه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن دريد: اشتقاقه من قولهم: دجلت الشيء إذا سترته، كأنه يستر الحق ويغطيه ويلبس بتمويهه، ومنه سميت دجلة; كأنها حين فاضت على الأرض سترت مكانها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 143 ] وقال في "الغريبين": لأنه يقطع الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (شثن الكفين والقدمين) قال الخليل: الذي في أنامله غلظ، وقد شثن شثنا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد: هما إلى الغلظ ، فكان كفه - عليه السلام - ممتلئا لحما، وبين ذلك قول أنس: وكان ضخم اليدين والقدمين، غير أن كفه مع ضخامتها كانت لينة، كما روي عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ما مسست حريرة ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              وعبارة الخطابي: يريد الغليظ الكفين الواسعان .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: قد قال أبو حاتم عن الأصمعي: الشثن غلظ الكف وخشونتها، وأنشد قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                              وتعطو برخص غير شثن كأنه أساريع ظبي أو مساويك إسحل



                                                                                                                                                                                                                              فعلى تأويل الأصمعي: البيت يعارض قول أنس في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان خشن اليدين مع قوله: (ما مسست حريرة ألين من كفه).

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قول الأصمعي من أفراده، ولا فسر أحد بيت امرئ القيس عليه، وقد فسر الطوسي البيت بما يوافق قول الأولين، فقال: قوله: بكف غير شثن. أي: غير غليظ جاف. وهو الصواب; لأن الشاعر إنما وصف كف جارية والمستحب فيها الرقة واللطافة، ألا تراه أنه شبهها في الرقة بالدود البيض الرقاق اللينة التي تكون في الرمل أو بمساويك رقاق ولم يصفها بالغلظ والامتلاء، وذلك لا يستحب

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 144 ] في النساء وهو مستحب في الرجال، ولا يمنع أحد أن تكون كفه ممتلئة لحما شديد الرطوبة غير خشنة، فلا تعارض بينهما، ولو صح تأويل من جعل الشثن الخشن لأمكن الجمع; لأنها خشنة باعتبار المهنة.

                                                                                                                                                                                                                              قالت عائشة - رضي الله عنها - : كان - عليه السلام - في مهنة أهله يرقع الثوب ويخصف النعل . وفي حديث آخر: ويحلب الشاء.

                                                                                                                                                                                                                              وإذا كان - عليه السلام - يعمل بيديه حدثت له الخشونة، وإذا ترك ذلك عاد إلى أصل جبلته سريعا وهي لين الكف، فأخبر أنس عن كلتا الحالتين، فلا تعارض في ذلك لو كان التأويل كما قال الأصمعي، وتأويل الجماعة مغن عن هذا التخريج.

                                                                                                                                                                                                                              وقال في "الصحاح" الشثن بالتحريك مصدر، شثنت كفه بالكسر. أي: خشنت وغلظت وهو بالثاء المثلثة، قال: يقول: رجل شثن الأصابع بالتسكين ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: ولم يساعد الجوهري عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن جرير: إنه غلظها في خشونة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              (قوله) في حديث ابن عباس: (مخطوم بخلبة) قال صاحب "العين": هي حبل من ليف .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 145 ] قال الجوهري: وهي بضم اللام وسكونها . قال ابن فارس والقزاز: إن الخلبة الليف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: الخلبة: كل حبل أجيد فتله من ليف أو قنب أو غير ذلك ما كان. ويقال: بل هو ليف المقل .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: بيان أن موسى - عليه السلام - حج، خلافا لما يقوله اليهود أنه لم يحج ولم يتخذ البيت منسكا قط.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قول أنس - رضي الله عنه - أنه مات ابن ستين هو قول عروة بن الزبير.

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن ابن عباس خلاف هذا، قال: أقام - عليه السلام - بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، وبالمدينة عشرا، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقد سلف الاختلاف واضحا في سنه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (ليس بالطويل البائن) أي: ليس بخارج عن الحد في طوله ولا بالقصير. يعني: أنه كان معتدلا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حديث البراء لعله كان في الحرب، قاله الداودي.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إن جمته لتضرب قريبا من منكبيه) وقال بعده شعبة: شعره يبلغ شحمة أذنيه; لأن شحمة الأذن هي معلق القرط.

                                                                                                                                                                                                                              وقول أنس: (إلى منكبيه) وقال أيضا: (بين أذنيه وعاتقه) لعلها صفات مرات، لعله نقص منها عندما حلق في حج أو عمرة أو غيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 146 ] والجمة بالضم: مجمع شعر الرأس، وهي أكثر من الوفرة. قال الجوهري وقال ابن فارس: اللمة بالكسر: الشعر يجاوز شحمة الأذن، (فإذا بلغت المنكبين فهي جمة، كذا في "الصحاح" هنا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال في (وفر): الوفرة: الشعرة إلى شحمة الأذن، ثم الجمة، ثم اللمة وهي التي ألمت بالمنكبين ، وكذا قال الهروي: سميت لمة; لأنها ألمت بالمنكبين، قال) فإذا زادت فهي جمة ورجل مجم، قال: فإذا بلغت شحمة الأذنين فهي وفرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قد رجلها فهي تقطر ماء) قال أبو عبد الملك: يريد مشطها بالماء، قال: والترجيل أن يبل الرأس ثم يمشط.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن السكيت: شعر رجل ورجل: إذا لم يكن شديد الجعودة ولا سبطا . تقول فيه: رجل شعره ترجيلا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القزاز: ترجيل الشعر: دهنه ومشطه وتسكين شعثه. وقال الداودي: هو أن يمسه بماء أو دهن ثم يمشط ويرسل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (كان شعره رجلا) هو بكسر الجيم وفتحها (كما سلف) .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد فسرنا قوله: (عنبة طافية) وقال الأخفش: يريد عنبة طفت وامتلأت وبرزت. وقال غيره: ذهب ضوؤها ونقصت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 147 ] وقيل: شبهها بحبة عنب وقد فضخت وذهب ماؤها.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: أراد أن عينه قد خرج الناظر الأسود الذي فيها; لأن كل شيء طفر فقد طفا، وطافية غير مهموز; لأنه من طفا يطفو من ذوات الواو على هذا، وعلى من قال: فضخت وذهب ماؤها مهموز من طفئت تطفأ، وعنبة بناء نادرا إلا أن الأغلب على هذا البناء الجمع نحو قرد وقردة إلا أنه جاء للواحد عنبة وحبرة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في الدجال هل يقال فيه المسيح بتخفيف السين أو بتشديدها؟ فقيل بالتخفيف فيه وفي عيسى - صلى الله عليه وسلم - ، قاله ابن قتيبة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجوهري: يسمى الدجال مسيحا بالتخفيف من سياحته وبالتثقيل، لأنه ممسوح العين اليمنى .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              من الغريب ما حكاه ابن التين أنه قيل: إن هذا الحديث دل على أن الدجال يدخل مكة دون المدينة. وفيه نظر، ولا حاجة إلى ذكر ذلك، فالأدلة (ثابتة) على أنه لا يدخلها.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (لم أر بعده شبها له) قال الجوهري: شبه وشبه لغتان (بمعنى) ، يقال: هذا شبهه، أي: شبيهه، وبينهما شبه بالتحريك .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية