الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5727 6077 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". [انظر: 6237 - مسلم: 2560 - فتح: 10 \ 492]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أسنده قريبا في باب ما ينهى عن التدابر، من طريق أنس - رضي الله عنه - : "لا تباغضوا" وفي آخره: "ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" وذكر في الباب حديث أنس وأبي أيوب. وفي أثناء حديث عائشة الطويل (أيضا) ، وهو صريح في تحريم الهجران فوق ثلاث، وكذا العداوة والإعراض عن المسلم حرامان، وهذا فيمن لم يجن على الدين جناية، فأما من جنى عليه، وعصى ربه، فجاءت الرخصة (في عقوبته) بالهجران، كالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك، أمر

                                                                                                                                                                                                                              الشارع بهجرانهم، فبقوا كذلك خمسين ليلة، حتى نزلت توبتهم . وآلى - عليه السلام - من نسائه شهرا . وهذا تخصيص لعموم الخبر.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: أيأثم من كلم الفجار والعصاة على علم منهم بها بغير تأويل؟ قلت: إن كلمهم بالتقريع والوعظ لم يأثم، وإن كلمهم على غير ذلك خشيت عليه الإثم، قاله ابن جرير، إلا أن يكلم من لا يجد من كلامه بدا، فيكلمه وهو كاره لطريقته وعليه واجد، كالذي كان من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 428 ] أبي قتادة في كعب، إذ ناشده الله: أهل تعلمني أحب الله ورسوله؟ كل ذلك لا يجيبه، ثم أجابه بأن قال: الله ورسوله أعلم، ولم يزده على ذلك. وقيل: كلامهم مكروه.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف هل يخرج (بالسلام) وحده من الهجران؟ فقالت البغاددة: (نعم) ; لقوله - عليه السلام - : "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" وقاله مالك مرة، وقال: إنه حري إن كان يؤذيه برئ من الشحناء، قال ابن القاسم: وإن كان غير مؤذ له لم يخرجه منه إذا اجتنب كلامه. وقال أحمد: ينظر إلى حالهم قبل، فإن علم منه مكالمته والإقبال عليه، فلا يخرجه ذلك، لا يخرجه السلام ليس معه إعراض. قيل: وروي نحوه عن مالك .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر البخاري في الباب أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عوف بن الطفيل - هو ابن الحارث وهو ابن أخي عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمها - أن عائشة حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها. فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا .. الحديث بطوله.

                                                                                                                                                                                                                              عوف هذا هو ابن الحارث بن الطفيل بن عبد الله بن الحارث بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 429 ] سخبرة بن جرثومة بن عادية بن مرة بن جشم بن أوس بن عامر بن حنين بن النمر بن عثمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد.
                                                                                                                                                                                                                              هكذا ساقه ابن الكلبي. وقال: الطفيل أخو عائشة لأمها أم رومان بنت عمير الكناني.

                                                                                                                                                                                                                              وكانت عائشة - رضي الله عنها - من أجود الناس، أعطت القاسم بن محمد وابن أبي عتيق ابني أخويها ما أعطت فيه مائة ألف ، وأعانت المنكدر في كتابته بعشرة آلاف. وإنما كره لها ابن الزبير بيع رباعها، وتأولت هي في هجرانه أنها كانت أمه; لأنها أم المؤمنين، فهي أم له لا (خالة) .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تكنيني؟ فقال: "تكني بابنك عبد الله" فكانت تكنى بأم عبد الله، فرأت (عائشة - رضي الله عنها - ) أنه عقها، وأنه أتاها بما يوجب هجرته، فتنكر له الناس إذ هجرته عائشة، وكان هذا قبل أن يلي; لأن عائشة ماتت سنة سبع وخمسين، في خلافة معاوية، وكان ابن الزبير حينئذ لم يل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 430 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (الهجرة) كما قال الطبري: ترك الرجل كلام أخيه إذا اجتمعا، وأعرض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له، وتركا للكلام له والسلام عليه إذا تلاقيا. وعائشة لم تكن ممن تلقى ابن الزبير، وإنما كانت من وراء حجاب، لا يدخل عليها إلا بإذن، وكان لها منعه من دخوله منزلها (وليس ذلك هجرة منهيا عنها كما لو كانت في بلد آخر، وقيل: إنها تأولت أنه عصى بتنقيصه لها) فهجرته لأنها أم له ولسائر المؤمنين يجب توقيرها - رضي الله عنها - .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قولها: (لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا) هذا نذر في غير طاعة، فلا يجب عليها شيء عند مالك وغيره ، أو يكون تقدير الكلام: علي نذر إن كلمت ابن الزبير، وظاهر الكلام لا شيء عليه; لأن المنذور ترك كلام ابن الزبير; لأن (أن) مع الفعل في تأويل المصدر، وإنما يوفى هذا فيما كان طاعة، كالعتق والصلاة والصوم، أما نذر المعصية كالزنا، والمكروه كترك النوافل، والمباح، فلا يلزم الوفاء به .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف إذا قال: علي نذر لأفعلن كذا. فكفارته كفارة يمين، كما جاء في مسلم ، وهو قول مالك وغير واحد من التابعين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 431 ] وعن ابن عباس: عليه أغلظ الكفارات كالظهار; لأنه لم يسم اليمين بالله، ولا نواها. وقيل: إن شاء صام يوما، أو أطعم مسكينا، أو صلى ركعتين; لأنه لا يقم ذمته إلا بالأقل، وكل ما يصح أن ينذر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (أنشدكما بالله) أي: أسألكما. وهو ثلاثي من نشده بالله، إذا سأله.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (ولا أتحنث إلى نذري) أي: لا أخالف ما نذرت; لأن الحنث: الخلف في اليمين، تقول: أحنث الرجل في يمينه، فحنث.

                                                                                                                                                                                                                              و (التحريج): الإثم والتضييق، يقال: تحرج. أي: تأثم. وأحرجه إليه أي: ألجأه إليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (لما أدخلتماني على عائشة) حكى سيبويه : لما فعلت - مشددة - أي: إلا فعلت . وقد قرئ: إن كل نفس لما عليها حافظ [الطارق: 4] بالتشديد ، تقديره: ما كل نفس إلا عليها حافظ. فتكون (إن) بمعنى: ما. وفي "الصحاح": وقول من قال: لما بمعنى إلا، غير معروف في اللغة .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس السالف في باب: ما ينهى عن التدابر، إلا أنه قال: "فوق ثلاث ليال" بدل "أيام".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 432 ] الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - : "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: في حديث أنس وأبي أيوب البيان الواضح أنه غير جائز لمسلم أن يهجر مسلما أكثر من ثلاثة أيام، (وأنه إن هجره أكثر من ثلاثة أيام) أثم، وكان أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه; لأنه - عليه السلام - أخبره أنه لا يحل ذلك، ومن فعل ما هو محظور عليه فقد اقتحم حمى الله، وانتهك حرمته.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: دليل أن هجرته دون ثلاثة أيام مباح (لهما) ولا تبعة عليهما فيها. وقال غيره: وتجاوز الله لهما عما يعرض لهما من ذلك في ثلاثة أيام; لما فطر الله العباد عليه من ضعف الجبلة وضيق الصدر، وحرم عليهما ما زاد على الثلاث; لأنه من الغل الذي لا يحل. وروى عيسى، عن ابن القاسم، في الرجل يهجر أخاه إلا أنه يسلم عليه من غير أن يكلمه بغير السلام، هل يبرأ من الشحناء؟ فقال: سمعت مالكا يقول: إن كان مؤذيا، إلى آخر ما (أسلفنا. وقال به أحمد أيضا. كذا نقله عنه ابن بطال ) . وما أسلفناه عنه نقله ابن التين. وقيل لابن القاسم: هل ترى (شهادته عليه) جائزة باجتنابه كلامه وهو غير مؤذ له؟ قال: لا تقبل شهادته.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 433 ] فإن قلت: فحديث عائشة في الباب لما هجرت عبد الله بن الزبير، وحلفت أن لا تكلمه أبدا، فتحيل عليها بالشفعاء حتى كلمته.

                                                                                                                                                                                                                              قيل: معنى الهجرة: هو ترك كلام الرجل أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما، وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له، وتركا للسلام، وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذ تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما، فعائشة لم تكن ممن تلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام عليه صرما له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذن، وكان لها منع ابن الزبير الدخول كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وأخبر - عليه السلام - بسبب حظر الله تعالى هجرة المسلم أخاه أن ذلك إنما هو من أجل تضييعهما ما أوجب الله عليهما عند تلاقيهما، فأما إذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما في واجب حق أخيه عليه فذلك بعيد من معنى الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقد تأول غير الطبري في هجرة عائشة - رضي الله عنها - لابن الزبير وجها آخر، فقال: إنما ساغ لعائشة ذلك; لأنها أم المؤمنين ولازم توقيرها وبرها لجميع المؤمنين، وتنقصها كالعقوق لها، فهجرت ابن الزبير أدبا له، ألا ترى أنه لما فرغ نزع عن قوله، وندم عليه، وتشفع إليها، رجعت إلى مكالمته، وكفرت يمينها. وهذا من باب إباحة هجران من عصى والإعراض عنه حتى يفيء إلى الواجب عليه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية