الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5797 6149 - حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه ومعهن أم سليم، فقال: " ويحك يا أنجشة، رويدك سوقا بالقوارير". قال أبو قلابة: فتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمة لو تكلم بعضكم لعبتموها عليه: قوله: "سوقك بالقوارير". [انظر: 6161، 6202، 6209، 6210، 6211 - مسلم: 2323 - فتح: 10 \ 538].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              (الرجز) - بفتح الراء والجيم - : اختلف في كونه شعرا، ولهذا حسن من البخاري عطفه على الشعر. قال ابن التين: هو من الشعر. وقيل:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 542 ] لا، وإنما هو الكلام السجع; وذلك أنه يقال لصانعه: راجز، ولا يقال: شاعر.

                                                                                                                                                                                                                              و (الحداء) بضم الحاء والمد: مصدر، يقال: حدوت الإبل حدوا وحداء، وهو سوق الإبل والغناء لها، مثل: دعوت دعاء، ويقال للشمال: حدواء; لأنها تحدو السحاب. (وحكى الأزهري وغيره: كسر الحاء أيضا وأول من اتخذه قريش) .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر البخاري قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخر الآية: في كل واد يهيمون [الشعراء: 224 - 225 ].

                                                                                                                                                                                                                              (قال ابن عباس: في كل لغو يخوضون).

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عباس: الغاوون : الرواة، وقال الضحاك: هما اثنان تهاجيا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحدهما أنصاري، وكان مع كل واحد منهما جماعة، وهم الغواة أي: السفهاء. وقال عكرمة: هم الذين يتبعون الشاعر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: الغاوون : الشياطين. وروي عنه: هم الذين يتبعون ويروون شعرهم .

                                                                                                                                                                                                                              ونقل ابن بطال عن أهل التأويل - منهم ابن عباس وغيره - أنهم شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين وعصاة الجن، ويروون شعرهم; لأن الغاوي لا يتبع إلا غاويا مثله. وقول ابن عباس: (في كل لغو يخوضون). وقيل: في كل واحد من القول يهيمون. قال أبو عبيدة: الهائم: المخالف للقصد في كل شيء .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 543 ] (يمرحون) ويمرقون ويسرعون بما ليس في الممدوح والمذموم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: إلا الذين آمنوا [الشعراء: 227] قال ابن عباس: يعني: ابن رواحة وحسانا. وقوله: وذكروا الله كثيرا أي: في شعرهم، وقيل: في خلال كلامهم للناس، وقيل: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. وانتصروا من بعد ما ظلموا أي: ردوا على الكفار الذين كانوا يهجونه.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: ولا خلاف في أن حكم المستثنى مخالف لحكم المستثنى منه، فوضح أن المذموم من الشعراء غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم محمودون غير مذمومين .

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر فيه أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث شعيب، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن مروان بن الحكم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من الشعر حكمة".

                                                                                                                                                                                                                              يعني: كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما، وهو من أفراده، وعزاه إليه المزي في "أطرافه" إلى الأدب ، وقد علمت أنه في كتاب البر والصلة، وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجه من حديث يونس بن زيد، عن الزهري به .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 544 ] ورواه إبراهيم بن سعد أيضا عن الزهري به، وقال: عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث ، قال غير واحد عن إبراهيم بن سعد كذلك. وهو معدود من أوهامه.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أبو عمر الحوضي، وأبو معمر الهذلي ، وعبد العزيز بن أبي سلمة العمري، عن إبراهيم بن سعد، فقالوا: عن عبد الرحمن بن الأسود على الصواب. وتابعهم يزيد بن هارون، إلا أنه أسقط مروان بن الحكم من إسناده .

                                                                                                                                                                                                                              وكذلك رواه الوليد بن محمد الموقري عن الزهري ، وروي عن عبد الرحمن بن مهدي، عن إبراهيم بن سعد بالوجهين جميعا، وذكر فيه مروان بن الحكم. ورواه معمر عن الزهري. واختلف عليه فيه فقال رباح بن زيد الصنعاني عن معمر كرواية الجماعة . وقال علي بن بحر بن بري: عن هشام بن يوسف، عن معمر بإسناده عن عبد الله بن الأسود، كما هو المشهور عن إبراهيم بن سعد، وقال عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق : عن معمر، عن الزهري عن عروة، عن مروان، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبي بن كعب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 545 ] الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث جندب - رضي الله عنه - : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي إذ أصابه حجر فعثر فدميت إصبعه فقال:


                                                                                                                                                                                                                              "هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت"



                                                                                                                                                                                                                              قد سلف أنه قول ابن رواحة تمثل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والأصبع يذكر ويؤنث، وفيها عشر لغات: تثليث الهمزة والباء والعاشرة أصبوع. واقتصر ابن التين على خمس منها.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم".

                                                                                                                                                                                                                              يريد: أصدق قسم، "وما خلا": كلمة يستثنى بها وينصب ما بعدها و (يجر) ، وأما ما خلا أي: وما كان (فيه) من ملائكة وكتب ورسل ونبيين واليوم الآخر والجنة والنار ليسوا بباطل، وهذا من اختصار العرب.

                                                                                                                                                                                                                              والقسم الثاني وهو: وكل نعيم لا محالة زائل، فعابه بعض الصحابة وقال: نعيم الآخرة لا ينفد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 546 ] قال الداودي: والذي يدخل في هذا يدخل في القسم الأول كما تقدم. ومعناه: نعيم الدنيا. ولبيد: هو ابن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر: وهو شعر حسن، فيه ما يدل على أنه قاله في الإسلام، وهو قوله:


                                                                                                                                                                                                                              وكل امرئ يوما سيعلم سعيه إذا كشفت عند الإله المحاصل



                                                                                                                                                                                                                              وقد قال أكثر أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:


                                                                                                                                                                                                                              الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

                                                                                                                                                                                                                              وهذا البيت لقردة بن نفاثة في أبيات. وقيل البيت الذي قاله:


                                                                                                                                                                                                                              ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه القرين الصالح



                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر ابن عساكر له مرثية في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها ابن عساكر، ومديحا فيه بيت في ديوانه من غير رواية ابن السكري.

                                                                                                                                                                                                                              وقال المبرد: كان شريفا في الجاهلية والإسلام، وكان نذر ألا تهب الصبا إلا نحر وأطعم ، وهو من فحول الشعراء ومن المؤلفة أيضا، عمر، مات بعد المائة، إما وأربعين أو سبع (وخمسين) .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" أي: لأن ألفاظه حكمة. ويقال إنه الذي نزل فيه واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [الأعراف: 175] قاله عبد الله بن عمرو.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 547 ] وقال ابن عباس: هو بلعام من بني إسرائيل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عكرمة: هو من كبار اليهود والنصارى لم يصح إسلامه .

                                                                                                                                                                                                                              وروي أن أمية هذا رأته ابنتاه في المنام نسرين، كشطا سقف بيته فشق أحدهما عن قلبه، فقال له الآخر: أوعى؟ قال: وعى. (قال: أزكى؟ قال: أبى) : فقال: ذلك خير أريد بأبيكما فلم يقبله .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث سلمة بن الأكوع السالف في غزوة خيبر وفيه: اللهم لولا أنت ما اهتدينا إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فرجع ذباب سيفه) أي: طرفه الذي يضرب به.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قال سلمة: فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاحبا)، الشاحب: المتغير اللون والجسم; لعارض من مرض أو سفر ونحوهما، وقد شحب يشحب شحوبا فهو شاحب، ولا يصح أن يكون بالجيم كما قاله ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: شجب يشجب: إذا (حزن) أو هلك، فهو شجب. وشجب يشجب بالضم هو شاجب. أي: هالك ، والمروي بالحاء المهملة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 548 ] الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض نسائه - ومعهن أم سليم - فقال: "ويحك يا أنجشة، رويدك سوقا بالقوارير". قال أبو قلابة: فتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمة لو تكلم بعضكم لعبتموها عليه: قوله: "سوقا بالقوارير".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الشعر والرجز والحداء كسائر الكلام، فما كان فيه ذكر تعظيم الرب ووحدانيته وقدرته وإيثار طاعته وتصغير الدنيا والاستسلام له تعالى، كنحو ما أورده البخاري في الباب فهو حسن مرغب فيه، وهو الذي قال فيه - عليه السلام - : "إن من الشعر حكمة". وما كان منه كذبا أو فحشا فهو الذي ذمه الله ورسوله. وقال الشافعي: الشعر كلامه حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه . قلت: وهو حديث مرفوع ، وسماع الحداء ونشيد الأعراب لا بأس به; فإن الشارع قد سمعه وأقره ولم ينكره.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الباب رد على من نهى عن قليل الشعر وكثيره، واعتلوا بحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان إذا افتتح الصلاة يستعيذ من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه ، فسره عمرو بن مرة في رواية. فقال: نفثه: الشعر ونفخه: الكبر وهمزه الموت . أي: الجنون، وبحديث أبي أمامة الباهلي أنه - عليه السلام - قال: لما أنزل إبليس إلى الأرض

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 549 ] قال: يا رب اجعل لي قرآنا، قال: الشعر .. وذكر الحديث . وبحديث ابن لهيعة عن أبي قبيل قال: سمعت عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: من قال ثلاثة أبيات من الشعر من تلقاء نفسه لم يدخل الفردوس.

                                                                                                                                                                                                                              قال الأعمش: تمثل مسروق بأول بيت شعر ثم سكت فقيل له: لم سكت؟ قال: أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا . وقال ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان . وكان الحسن لا ينشده .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري: وهذه أخبار واهية، والصحيح في ذلك أنه - عليه السلام - كان يتمثل أحيانا بالبيت فقال: "هل أنت إلا أصبع" إلى آخره. وقال: "أصدق كلمة قالها الشاعر". تمثل بأول البيت وترك آخره. وقالت عائشة - رضي الله عنها - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل من الشعر: ويأتيك بالأخبار من لم تزود . وكان عامر بن الأكوع يحدو بالشعر بحضرته المشرفة. وقال: "من هذا السائق؟ " قالوا: عامر. فقال: "يرحمه الله".

                                                                                                                                                                                                                              وأمر حسان بن ثابت وغيره بهجاء المشركين، وأعلمهم أن (لهم على ذلك) جزيل الأجر وقال: "هو أشد عليهم من نضح النبل" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 550 ] وذكر الطبري عن عمر وعلي وجلة الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم أنشدوا الأشعار. وتمثل معاوية بالشعر . وكان ابن أبي مليكة وعكرمة ينشدانه. وكان ابن أبي مليكة ينشد به والمؤذن يقيم. وعن ابن سيرين أنه كان ينشد الشعر الرقيق.

                                                                                                                                                                                                                              وقال معمر: سمعت الزهري وقتادة ينشدان الشعر. قال قتادة: وكان ابن مسعود ربما تمثل بالبيت من وقائع العرب . قال شعبة: وكان قتادة ينشد الشعر فأقول له: أنشدك بيتا وتحدثني بحديث .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقول عامر: (فاغفر فداء لك ما اقتفينا.). أي: اتبعنا من الصالحين. زعم بعض الغفلة أن قوله: فداء لك. تصحيف لا يجوز أن يقال ذلك لله، وليس كما ظن، والشعر صحيح. والمعنى: فاغفر ما اقتفينا أي: ما ارتكبنا من الذنوب. تقول العرب: قفوت الشيء قفوا: اتبعت أثره. ومنه قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36] وقوله: (فداء لك) دعاء منه ربه أن يفديه من عقابه على ما اقترف من ذنوب، فكأنه قال: اللهم اغفر لي وافدني منه فداء لك أي: من عندك فلا تعاقبني. وقوله: (لك) يبين الفاعل للفداء المعني بالدعاء كما تقول في الدعاء: سقيا لك. فـ (لك) ههنا مذكور لتبين المعني بالدعاء له، والمعنى سقاك الله، فكذلك قوله: (فداء لك) معناه: افدنا من عقابك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 551 ] وقد ذكر البخاري في غزوة خيبر بلفظ (ما أبقينا) أي: من الذنوب، أي: ما تركناه مكتوبا علينا، ونحو ذلك. (فداء لك) بالرفع والخفض أيضا. فوجه الرفع: أن يكون خبر ابتداء مضمر أي: نحن فداء لك كأنك قلت: نحن لتفدنا أو افدنا، كما تقول: نحن ارحمنا، وزيدا ارحمه. ومن خفض فداء شبهه بأمس، فبناه على الكسر كبناء الأصوات عليه نحو قولهم: قال الغراب: غاق، والخيل: طاق، وأنشد سيبويه:


                                                                                                                                                                                                                              مهلا فداء لك الأقوام كلهم ............



                                                                                                                                                                                                                              وتقديره: اغفر، افدنا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقول الرجل : (وجبت يا رسول الله). يعني: الجنة فهو من دعائه لعامر بالرحمة أنه يستشهد في تلك الغزاة، ويكون من أهل الجنة، كما فهم ابن عباس من قوله: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا [النصر: 2] الآية حضور أجله - عليه السلام - ، فلذلك قال الرجل: وجبت يا رسول الله، ثم قال: هلا أمتعتنا به. وقوله: (لولا أمتعتنا به). أي: هلا، ومعناه: التحضيض.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 552 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله ("إن له لأجرين، إنه لجاهد مجاهد") أي: جاد في الأجر مجتهد فيه مبالغ ومجاهد في سبيل الله، ويحتمل أن يكون لما أمات نفسه وقتلها في سبيله تفضل الله عليه بأن ضاعف أجره مرتين أو أخذ الأجرين لموته في سبيل الله. والآخر لما كان يحدو به القوم من شعره ويدعو الله في ثباتهم عند لقاء عدوهم وذلك تحضيض للمسلمين وتقوية لنفوسهم. وقد روي هذا المعنى مرفوعا. روى معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل. قال: "إن المؤمن يجاهد بنفسه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمون به نضح النبل" .

                                                                                                                                                                                                                              وتأويل سلمة ومن معه أن عامرا حبط عمله; لقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: 29] فحملوا الخطأ على العمد، قيل: ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ [النساء: 92].

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (ألا تسمعنا من هنيهاتك). العرب تقول لكل شيء صغير: هنة، والهنوات من الكلام: ما صغر منها ولم يكن له كبير معنى، كما قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                              ............ على هنوات كلها تتابع



                                                                                                                                                                                                                              يريد: على صغار من الكلم المستحق بها القطيعة. والهنة: كل شيء صغير برز من عظم شيء أو بان منه. كزمعة ظلف الشاة، وحلمة الثدي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 553 ] والضرع، ويجوز أن يقال: هنية وهنيهة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: في فلان هنات أي: خصلات شر . وهنيهات: تصغير، كأنه قال له: أسمعنا من أشعارك وغنائك. وفي كتاب الدعاء: ألا أسمعتنا من هنياتك . ويقال ذلك; للبرهة من الدهر أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله - عليه السلام - : "يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير" القوارير هنا: كناية عن النساء الذين على الإبل، أمره بالرفق في الحداء والإنشاد; لأن الحداء يحث الإبل حتى تسرع السير، فإذا مشت الإبل رويدا أمن على النساء السقوط.

                                                                                                                                                                                                                              وتشبيهه - عليه السلام - النساء بالقوارير من الاستعارة البديعة; لأن القوارير أسرع الأشياء تكسرا، فأفادت الاستعارة ههنا من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة; لأنه لو قال: ارفق في مشيك بهن أو ترسل، لم يفهم من ذلك أن التحفظ بالنساء كالتحفظ بالقوارير، كما فهم ذلك من الاستعارة; لتضمنها من المبالغة في الرفق ما لم تتضمنه الحقيقة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              أنشجة: غلام أسود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ذكروه في الصحابة، وهو من الأفراد، كان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا يسوقها كما يسوق الدابة إذا حملت القوارير، قاله ابن التين. وليس كتأويل البخاري أنه كان

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 554 ] يحدو. وسيأتي في باب: ويلك، أنه كان يحدو . وقال في حديث بعد: وكان حسن الصوت .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              القوارير: جمع قارورة من الزجاج. قال الهروي: شبههن بذلك; لضعف عزائمهن، والقوارير يسرع الكسر إليها. وكان أنجشة ينشد من القريض. والرجز ما فيه تشبب فلم يأمن أن يصيبهن أو يقع بقلوبهن حداؤه، فأمره بالكف; خوف ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا). هذا ليس بشعر ولا رجز ولا موزون ، وقوله: (فاغفر فدى لك ما اقتفينا). صوابه فداء بالمد وكسر الفاء، وبه ينون على ما قبله، ومن قصر فدى فتح الفاء، ومنهم من يكسر فداء بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة تقول: فداء لك; لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ("قل عربي نشأ بها مثله") يعني عليها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 555 ] وذكره ابن التين بلفظ: "نشأ بها". أي: كبر عليها; لأن النشأة البداءة، ثم ذكر (ما) بدأنا رواية عن الداودي، وذكره في غزوة خيبر: "مشى" من المشي.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "رويدك" أي: أمهل، وحركت الدال; لالتقاء الساكنين وتنصب نصب المصادر، وهو تصغير ترخيم من أرود يرود إروادا، وتقول: رويدك عمرا، فالكاف للخطاب لا موضع لها من الإعراب; لأنها ليست باسم، و (رويد) غير مضافة إليها ومتعد إلى عمرو; لأنه اسم سمي به الفعل، فعمل عمل الأفعال، وتفسير رويدا: مهلا، وتفسير رويدك: أمهل; لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل، قاله الجوهري .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( لو تكلم بعضكم لعبتموها عليه). قال الداودي: إنما قاله لأهل العراق، لما فيهم من التكلف والزهو ومعارضة الحق بالباطل.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فتناول به يهوديا ليضربه). إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              (فيه) - كما قال أبو عبد الملك - : دليل على أن من لم يعرف قاتله لا يودى، كقول أهل العراق. واحتجوا بقوله: لا يفرجنا في الإسلام

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 556 ] مفرجا. أي: لا (يترك) قتيل بلا دية، وإن لم يعرف قاتله وداه المسلمون، فهذا لم يده. والأصمعي يرويه: مفرحا. بالحاء، وينكر الجيم. وقيل: هما روايتان بالجيم معناه كما تقدم. وقال أبو عبيدة: وهو الذي إذا جنى أدى عنه بيت المال.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية