الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1563 [ 1369 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا مالك، عن ثور بن زيد الديلي; أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نرى أن تجلده ثمانين; فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى أو كما قال، قال: فجلد عمر ثمانين في الخمر .

التالي السابق


الشرح

عبد الرحمن: هو ابن أزهر بن عوف أبو جبير الزهري القرشي، ابن عم عبد الرحمن بن عوف، مذكور في الصحابة، شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم – [ ص: 465 ] حنينا، وروى عنه.

وحدث عنه: ابنه عبد الحميد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والزهري، وغيرهم .

وثور بن زيد: هو الديلمي المديني.

سمع: أبا الغيث سالما، والزهري.

فروى عنه: مالك، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز الدراوردي.

مات سنة ثلاث وخمسين [ومائة] .

وحديث عبد الرحمن بن أزهر رواه هشام بن يوسف الصنعاني عن معمر كما رواه الشافعي ، ورواه أسامة بن زيد عن الزهري، عن عبد الرحمن أيضا ورواه من هذا الطريق أبو داود في السنن عن سليمان ابن داود المهري عن ابن وهب عن أسامة بن زيد.

وحديث ثور بن زيد منقطع ومختصر، ورواه يحيى بن فليح أخو محمد بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس; أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنعال والعصي، وكانوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أكثر منهم في عهد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحوا مما كانوا يضربون في عهد رسول [ ص: 466 ] الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر يجلدهم أربعين، إلى أن استشار فيه فقال علي: نرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانين جلدة، فأمر عمر بثمانين .

وقول عبد الرحمن: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين يسأل عن رحل خالد بن الوليد، فجريت بين يديه أسأل عن رحل خالد" فيه أدب المرافقة وإعانة الطالب ودلالته على ما يبغيه، وكان عبد الرحمن من الأحداث، فقد روى البخاري في التاريخ بعض هذا الحديث وقال: "فسعيت بين يديه وأنا محتلم"، وفي بعض الروايات: "وأنا غلام شاب".

ويحسن من الأحداث إعانة الأكابر والقيام بخدمتهم.

وقوله: "أتاه جذعا" كأنه يريد أتاه وهو أول من أتاه أو قويا قبل أن يتعب من كثرة السير، والأصل فيه سنن الدواب، ويقال: الدهر جذع أبدا أي: شاب لا يهرم، ويقال أيضا: فلان في هذا الأمر جذع إذا أخذ فيه حديثا.

وقوله: "وأتي النبي - صلى الله عليه وسلم – بشارب" لا يقتضي أن يكون الإتيان بالشارب بعدما أتى [خالد] نعم لو قال: فأتي بشارب بالفاء لأشعر بذلك، وفي رواية أسامة بن زيد عن الزهري عن عبد الرحمن: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، [ ص: 467 ] فأتي بسكران، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن عنده: "اضربوه" فضربوه بما في أيديهم.

وقوله: "فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب" هكذا كان يضرب الشارب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين من رواية شعبة، عن قتادة، عن أنس; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالجريد والنعال .

وفي بعض الروايات عن عبد الرحمن بن أزهر: فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من يضرب بالسوط، ومنهم من يضرب بالعصا، وحثا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه بالتراب.

وقوله: "بكتوه" في الغريبين: التبكيت يكون تقريعا باللسان، يقال له: يا فاسق أما استحييت، أما اتقيت، ويكون باليد والعصا ونحوهما، وليحمل اللفظ على التوبيخ باللسان فإنه أمر بالتبكيت بعد الضرب.

وقوله: "سأل من حضر ذلك المضروب فقومه أربعين".

أي: قدر ما جرى بأربعين جلدة بالاجتهاد والتخمين، وفي الصحيح من رواية قتادة عن أنس; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين، وأبو بكر ضرب أربعين . وأيضا; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوا من أربعين ثم صنع أبو بكر مثل ذلك .

وأظهر وجهي الأصحاب: أنه لو لم يجلد الشارب واقتصر على ضربه أربعين بالنعال وأطراف الثياب كفى وإن قدر ما جرى بأربعين جلدة، [ ص: 468 ] ويدل عليه ما رواه البخاري في الصحيح عن السائب بن يزيد قال: كنا نؤتى بالشراب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إمرة أبي بكر الصديق وصدرا من إمرة عمر فنضربهم بأيدينا وأرديتنا ونعالنا، حتى مضى صدر من إمرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا فيه وفسقوا جلد ثمانين.

وقوله: "حتى تتابع الناس في الخمر" أي: تهافتوا، يقال لمن يرمي بنفسه في الأمر سريعا: تتابع في كذا.

وقوله: "فاستشار فضربه ثمانين" استشار عمر.

وقول علي رضي الله عنهما: "إذا شرب سكر" رواه ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس، وروي عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه، فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير، وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد [انهمكوا] في الخمر وتحاقروا العقوبة، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون.

فقال: أبلغ صاحبك ما قال.

قال: فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين.

قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف التي كانت منه الزلة جلده أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين.

[ ص: 469 ] وفي "الصحيحين" من رواية قتادة عن أنس; أن عمر رضي الله عنه لما ولي استشار فيه، فقال عبد الرحمن بن عوف: نرى أن تجعله كأخف الحدود، فجلده عمر ثمانين.

ويحتمل أن الاستشارة جرت مرتين فأشار علي بالثمانين في مرة وعبد الرحمن في أخرى، ويحتمل أنها اتفقت مرة واحدة وأشارا معا بالثمانين فمنهم من روى قول هذا ومنهم من روى قول هذا.

واحتج بقوله: "إذا سكر هذى"، وإذا هذى افترى" على أن مظنة الشيء تقام مقام ذلك الشيء، وإذا تأملت ما في الفصل من الأحاديث تبين ذلك أن حد الخمر في الأصل أربعون، وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة ومالك: حد الشرب ثمانون.

والقائلون بالأربعين جوزوا الزيادة إذا رآها الإمام; لفعل الصحابة، ثم اختلفوا فيها:

فقال أكثرهم: إن الزيادة تعزير مضموم إلى الحد.

وقال آخرون: إنها من الحد، وحد الشرب قسمان: متحتم، ومتعلق باجتهاد الإمام ونظره.




الخدمات العلمية