الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                427 ص: حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: نا حجاج، قال: نا أبو عوانة ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، عن جعفر بن أبي ثور ، عن جابر بن سمرة ، عن النبي - عليه السلام - مثله.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا طريق آخر، وهو أيضا صحيح، وأبو عوانة الوضاح اليشكري .

                                                وأخرجه مسلم من هذا الطريق كما ذكرنا.

                                                [ ص: 59 ] وأخرجه الطبراني في "الكبير" أيضا: نا معاذ بن المثنى، نا مسدد. ح

                                                ونا طالب بن قرة الأذني، نا محمد بن عيسى بن الطباع. ح

                                                ونا أبو حصين القاضي، نا يحيى الحماني، قالوا: نا أبو عوانة ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، عن جعفر بن أبي ثور ، عن جابر قال: "كنت جالسا عند رسول الله - عليه السلام - فسئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فقال: نعم، فتوضئوا من لحوم الإبل. فقالوا: نصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.

                                                [قالوا] : أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ.

                                                [قالوا]: نصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم".


                                                واحتج هؤلاء القوم بحديث جابر بن سمرة فيما ذهبوا إليه.

                                                وقال ابن قدامة في "المغني": ولنا في هذا الباب حديث جابر بن سمرة وحديث البراء. وقد قال أحمد: فيه حديثان صحيحان عن النبي - عليه السلام - حديث البراء وحديث جابر بن سمرة. وكذلك قال إسحاق. وحديثهم لا أصل له إنما هو قول ابن عباس .

                                                قلت: أراد به ما استدل به الحنفية والشافعية والمالكية من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "الوضوء مما يخرج لا مما يدخل".

                                                ثم قال: فإن قيل: الوضوء ها هنا غسل اليد؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى غسل اليد كما كان - عليه السلام - يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده. وخص ذلك بلحوم الإبل لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في لحوم الغنم؛ قلنا: هذا فاسد؛ فإنه نوع تأويل يخالف الظاهر من وجوه أربعة:

                                                أحدها: أنهم حملوا الأمر على الاستحباب، ومقتضاه الوجوب.

                                                والثاني: أنهم حملوا الوضوء على غير موضوعه في الشرع، ولفظ الشارع عند الإطلاق إنما يحمل على الموضوعات الشرعية.

                                                [ ص: 60 ] الثالث: أنهم جمعوا بين ما نهى النبي - عليه السلام - عنه وبين ما أمر به، فإن النبي - عليه السلام - أمر بالوضوء من لحوم الإبل، ونهى عن الوضوء من لحوم الغنم، ومتى حمل الأمر على استحباب غسل اليد فهي مستحبة فيهما جميعا بدليل الحديث الذي رووه.

                                                الرابع: أن السائل سأل عن الوضوء من لحومها والصلاة في مباركها، والوضوء المقرون بالصلاة لا يفهم منه غير المشروع لها، ومخالفة هذه الظواهر كلها لا يجوز بمثل هذا التأويل الضعيف الذي ليس له أصل، ومن العجب أن مخالفينا أوجبوا الوضوء فيما يخالف القياس بأحاديث ضعيفة، فبعضهم أوجبه بالقهقهة في الصلاة، والخارج من غير السبيل، وبعضهم أوجبه من لمس الذكر بحديث مختلف فيه لا يقارب هذه الأحاديث في الصحة، والتأويل فيه أسهل من التأويل هاهنا، وقد عارضه حديث قيس بن طلق، وقد قال أحمد: ما أعلم به بأسا. وقال: الوضوء من أكل لحم الجزور أقوى من الوضوء من مس الفرج؛ لصحة الحديث فيه، ثم عدلوا عن هذا الحديث مع صحته وظهور دلالته لمخالفته القياس الطردي. انتهى .

                                                والجواب عن الحديث: أنه منسوخ بحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "كان آخر الأمرين من رسول الله - عليه السلام - ترك الوضوء مما مسته النار".

                                                ويتناول ذلك لحوم الإبل وغيرها، والجواب عن قوله: "وحديثهم لا أصل له إنما هو من قول ابن عباس": غير صحيح؛ لأن الحديث له أصل.

                                                وقد أخرجه الطبراني بإسناده عن أبي أمامة قال: "دخل رسول الله - عليه السلام - على صفية بنت عبد المطلب فغرفت له -أو فقربت له- عرقا فوضعته بين يديه ثم غرفت -أو قربت- آخر فوضعته بين يديه فأكل ثم أتى المؤذن فقال: الوضوء الوضوء. فقال: إنما الوضوء علينا (مما) خرج وليس علينا (مما) دخل" ولئن [ ص: 61 ] سلمنا ذلك، أو قلنا بضعف حديث الطبراني؛ لكون عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد في إسناده وهما ضعيفان، حتى قيل: لا يحل الاحتجاج بهما، فنقول: قول ابن عباس صحيح، قد روي عنه من وجوه كثيرة:

                                                منها ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا ابن علية ، عن أيوب ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: "الوضوء مما خرج وليس مما دخل" وهذا إسناد صحيح.

                                                ومنها ما رواه أيضا : نا هشيم ، عن حصين ، عن يحيى بن وثاب ، عن ابن عباس قال: "الوضوء مما خرج وليس مما دخل ولا مما أوطي" وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                ومنها ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" : عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول: "ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج" وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وقد روي هذا عن غير ابن عباس؛ فروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن وائل بن داود ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود قال: "إنما الوضوء مما خرج، والصوم مما دخل وليس مما خرج".

                                                عبد الرزاق : عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن المسيب قال: "إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل؛ لأنه يدخل وهو طيب، لا عليك منه، ويخرج وهو خبيث عليك منه الوضوء والطهور".

                                                [ ص: 62 ] وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا هشيم ، عن حصين ، عن عكرمة قال: "الوضوء مما خرج وليس مما دخل".

                                                وقد عرف في علم الأصول أن قول الصحابي المجتهد حجة لاحتمال السماع وزيادة الإصابة في الرأي ببركة صحبة النبي - عليه السلام - فابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - لا شك في اجتهادهما وكثرة علمهما واتساع فقههما، والخلاف في قول التابعي؛ لأنهم رجال ونحن أيضا رجال، ومع هذا لا يتم الإجماع بخلاف التابعي عندنا؛ خلافا للشافعي.

                                                وأما قوله: "قلنا هذا فاسد؛ فإنه نوع تأويل ... إلى آخره" ففاسد لأن هذا التأويل لا يخالف الظاهر؛ لأن الظاهر (أن) الوضوء له سبب وهو إرادة الصلاة مع الحدث، ولم يوجد هذا السبب عند أكل لحم الإبل حتى نقول: إن الأمر بالوضوء منه هو الوضوء الشرعي، وإنما معنى الأمر فيه منصرف إلى غسل اليد لوجود سببه وهو الزهومة والغمر، فمعنى الوضوء يتأول على الوضوء الذي هو النظافة ونقاء الزهومة، كما روي: "توضؤوا من اللبن فإن له دسما" .

                                                وقوله: "فبعضهم أوجبه بالقهقهة في الصلاة" غمز على الحنفية، وكذلك قوله: "والخارج من غير السبيل".

                                                وقوله: "وبعضهم أوجبه من لمس الذكر" غمز على الشافعية، والجواب عن هذا:

                                                [ ص: 63 ] أن حديث القهقهة أخرجه الدارقطني : عن أبي العالية الرياحي: "أن أعمى تردى في بئر، والنبي - عليه السلام - يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي - عليه السلام - فأمر النبي - عليه السلام - من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء والصلاة جميعا".

                                                فإن قيل: هذا الحديث مرسل أرسله أبو العالية الرياحي، وقد قيل: إنه كان لا يبالي من أين كان يأخذ الحديث. وقال ابن عدي: إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث، وإلا فسائر أحاديثه صالحة.

                                                قيل له: روى البيهقي : عن ابن شهاب: "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلا ضحك في الصلاة أن يعيد [1\ق 115- ب] الوضوء والصلاة" قال الشافعي: لم نقبله لأنه مرسل.

                                                فلم يذكر فيه علة سوى الإرسال، فدل على صحة إرساله، وأما أبو العالية فهو عدل ثقة، وقد اتفق على إرسال هذا الحديث معمر وأبو عوانة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بشير، فرووه عن قتادة ، عن أبي العالية، وتابعهم عليه ابن أبي الزيال وهؤلاء جميعهم ثقات، فإن صح عن أبي العالية أنه كان لا يبالي من أين أخذ الحديث، قلنا: لكنه إذا أرسل الحديث لا يرسله إلا عمن يقبل روايته؛ لأن المقصود من رواية الحديث ليس إلا التبليغ عن رسول الله - عليه السلام - وخاصة إذا تضمن حكما شرعيا، فإذا أرسل الحديث ولم يذكر من أرسله عنه مع علمه أو ظنه بعدم عدالته كان غاشا للمسلمين وتاركا لنصيحتهم، فتسقط عدالته، ويدخل في قوله: - عليه السلام -: "من غش فليس منا" وقد ثبتت عدالته ورواه الثقات عنه مرسلا؛ فدل على أنه أرسله عن عدل، ولأن المرسل شاهد على الرسول - عليه السلام - بإضافة الخبر إليه، فلو لم يكن ثابتا عنه بطريق تقارب العلم لما أرسله، ولكان أسنده لتكون العهدة على غيره، وهذه عادة غير مدفوعة؛ أن من قوي ظنه بوجود شيء أعرض عن إسناده، فهذه مسألة تفرد بها أصحابنا اتباعا لهذا الحديث، وتركوا القياس من أجله، وهذه شهادة ظاهرة لهم أنهم يقدمون الحديث على القياس، وهم أتبع للحديث من سائر [ ص: 64 ] الناس ، وروى محمد في "آثاره" وقال: أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثنا منصور ابن زاذان ، عن الحسن البصري ، عن معبد ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "بينما هو في الصلاة؛ إذ أقبل رجل أعمى من قبل القبلة يريد الصلاة، والقوم في صلاة الفجر فوقع في (زبية) فاستضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان قهقه منكم فليعد الوضوء والصلاة".

                                                محمد قال: أخبرنا أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم: "في الرجل يقهقه في الصلاة قال: يعيد الوضوء والصلاة ويستغفر ربه؛ فإنه أشد الحدث" .

                                                قال محمد: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة .

                                                وذكر هذا الحديث الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الأمالي" مسندا إلى معبد الحمصي عن النبي - عليه السلام - في باب الميم.

                                                فإن قيل: قد قال الدارقطني: روى هذا الحديث أبو حنيفة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، عن معبد الجهني مرسلا عن النبي - عليه السلام - وهم فيه أبو حنيفة على منصور، وإنما رواه منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن معبد ، ومعبد هذا لا صحبة له، ويقال: إنه أول من تكلم في القدر من التابعين، حدث به عن منصور ، عن ابن سيرين ، غيلان بن جامع وهشيم بن بشير، وهما أحفظ من أبي حنيفة للإسناد.

                                                قلت: هذا تحامل من الدارقطني على أبي حنيفة، وليس هو من أهل هذا الكلام في مثل أبي حنيفة الذي هو معظم أركان الدين، وأعظم أئمة المسلمين، وذكر ابن الأثير [ ص: 65 ] معبدا في الصحابة وقال: معبد بن (صبح) بصري روى عنه الحسن البصري، أخبرنا أبو موسى كتابة، أنا أبو علي، أنا أبو نعيم، ثنا الحسن بن علان، نا عبد الله ابن [أبي] داود، ثنا إسحاق بن إبراهيم، نا سعد بن الصلت، نا أبو حنيفة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، عن معبد: "أن النبي - عليه السلام - بينما هو في (الصلاة) إذ أقبل أعمى فوقع في زبية، فضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما سلم النبي - عليه السلام - قال: من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة".

                                                وقال مكي: عن أبي حنيفة ، عن معبد بن أبي معبد .

                                                أخرجه أبو عمر وأبو موسى، وقد أخرجه ابن منده وأبو نعيم فقالا: معبد بن أبي معبد الخزاعي، ورويا له هذا الحديث، (وأتى) النبي - عليه السلام - وهو صغير لما هاجر، ورويا له أيضا حديث جابر أنه قال: "لما هاجر رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر - رضي الله عنه – [1\ق 116- أ] مر بخباء أم معبد، فبعث النبي - عليه السلام - معبدا وكان صغيرا فقال: ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام، هات فرقا. فأرسلت أن لا لبن فيها، فقال النبي - عليه السلام -: هات، فمسح ظهرها فاجرت ودرت، ثم حلب فشرب، وسقى أبا بكر وعامرا ومعبد بن أبي معبد، ثم رد الشاة".

                                                وقال أبو نعيم عقيب حديث الضحك في الصلاة: رواه أسد بن عمرو عن أبي حنيفة فقال معبد بن (صبح) . أخرجه الثلاثة وأبو موسى .

                                                [ ص: 66 ] فإن قيل: روى أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" فدل أنه لا وضوء في القهقهة.

                                                قلت: ظاهر هذا الحديث متروك بالإجماع؛ لأنه في البول والغائط يجب الوضوء وإن لم يوجد الصوت أو الريح، وكذا في الدم والقيح إذا خرجا من المخرج المعتاد، ولا سيما على مذهب الشافعي فإن عنده يجب الوضوء من مس الذكر ومس المرأة فلا صوت ثمة ولا ريح، فلما لم يدل هذا الحديث على نفي الوضوء في هذه الصور، فكذا لا يدل على نفيه في القهقهة أيضا.

                                                قوله: "في زبية" بضم الزاي المعجمة وسكون الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف: حفرة محفورة، وفي الأصل حفرة يحفرونها للأسد.




                                                الخدمات العلمية