الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                461 462 ص: فهذا حديث ملازم، ، مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا في متنه، فهو أولى عندنا مما رويناه أولا من الآثار المضطربة في أسانيدها، ولقد حدثني ابن أبي عمران، ، قال: سمعت عباس بن عبد العظيم العنبري، يقول: سمعت علي بن المديني، يقول: حديث ملازم هذا أحسن من حديث بسرة، . فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق الإسناد واستقامته؛ فحديث ملازم هذا أحسن إسنادا، وإن كان يؤخذ [1\ق126-ب] من طريق النظر؛ فإنا رأيناهم لا يختلفون أن من مس ذكره بظهر كفه أو بذراعه لم يجب في ذلك وضوء، فالنظر أن يكون مسه إياه ببطن كفه كذلك، [ ص: 117 ] وقد رأينا لو ماسه بفخذه لم يجب عليه بذلك وضوء، والفخذ عورة، . فإذا كانت مماسته إياه بالعورة ، لا توجب عليه وضوءا، فمماسته إياه بغير العورة أحرى ألا توجب عليه وضوءا.

                                                التالي السابق


                                                ش: الذي قاله ظاهر، وبينته على دعواه صادقة [وهذا] الإمام المبرز في هذا الشأن صاحب التصانيف الواسعة، الذي هو أكبر مشايخ البخاري وأبي داود وأحمد بن حنبل وأبي يعلى الموصلي وأبي حاتم الرازي وغيرهم من أكابر أئمة الشأن، وهو الحافظ علي بن المديني، روى عنه مقالته هذه عباس بن عبد العظيم العنبري الحافظ شيخ الجماعة، وروى عنه شيخ الحنفية شيخ الطحاوي أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي .

                                                فإن قيل: قال البيهقي في "المعرفة" : ورواه عكرمة بن عمار عن قيس بن طلق مرسلا. ورواه بإسناده إلى أن قال: نا عكرمة بن عمار اليمامي ، عن قيس بن طلق: "أن طلقا سأل النبي - عليه السلام - عن الرجل يمس ذكره وهو في الصلاة. فقال: لا بأس به، إنما هو كبعض جسده" وهذا منقطع لأن قيسا لم يشهد سؤال طلق ، وعكرمة بن عمار أقوى من رواه عن قيس بن طلق، وإن كان هو أيضا مختلف في عدالته، فاحتج به مسلم بن الحجاج في غير هذا الحديث، وتركه البخاري، وضعفه يحيى بن سعيد القطان في آخرين.

                                                وقال في "سننه الكبير" : بإسناده إلى رجاء بن مرجى الحافظ قال: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين ، فتناظروا في مس الذكر فقال يحيى بن معين : يتوضأ منه. وتقلد علي بن المديني قول الكوفيين وقال به. واحتج يحيى بن معين بحديث بسرة بنت صفوان واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق ، وقال ليحيى : كيف تتقلد إسناد بسرة ومروان بن الحكم أرسل شرطيا [ ص: 118 ] حتى رد جوابها إليه؟! فقال يحيى : ثم لم يقنع ذلك عروة حتى أتى بسرة فسألها وشافهته بالحديث. ثم قال يحيى : ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق وأنه لا يحتج بحديثه. فقال أحمد بن حنبل : كلا الأمرين على ما قلتما. فقال يحيى : مالك عن نافع عن ابن عمر : "يتوضأ من مس الذكر" فقال علي: كان ابن مسعود يقول: "لا يتوضأ منه وإنما هو بضعة من جسدك". وقال يحيى: هذا عن من؟ فقال: عن سفيان ، عن أبي قيس ، عن هذيل ، عن عبد الله، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر واختلفا فابن مسعود أولى بأن يتبع. فقال أحمد بن حنبل: نعم، ولكن أبو قيس الأودي لا يحتج بحديثه. فقال علي: حدثني أبو نعيم، نا مسعر ، عن عمير بن سعيد ، عن عمار قال: "ما أبالي مسسته أو أنفي". فقال يحيى: بين عمير بن سعيد وعمار بن ياسر مفازة.

                                                ثم أسند البيهقي: أن ابن جريج والثوري تذاكرا مس الذكر، فقال ابن جريج: يتوضأ منه. وقال سفيان: لا يتوضأ منه. فقال سفيان: أرأيت لو أن رجلا أمسك بيده منيا ما كان عليه؟ فقال ابن جريج: يغسل يده. فقال: أيهما أكثر المني أو مس الذكر؟ فقال: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان. قال: وإنما أراد ابن جريج أن السنة لا تعارض بالقياس، وذكر الشافعي في رواية الزعفراني عنه أن الذي قال من الصحابة لا وضوء فيه فإنما قال بالرأي، ومن أوجب الوضوء فيه فلا يوجبه إلا بالاتباع. انتهى كلامه.

                                                قلت: لا يلزم من إرسال عكرمة بن عمار عدم صحة الحديث من غيره، وقوله: عكرمة (بن) عمار أقوى من رواه عن قيس غير صحيح؛ لأن عكرمة أيضا مختلف فيه، ولهذا لم يخرج له البخاري إلا مستشهدا، وضعفه يحيى القطان في أحاديث عن يحيى بن أبي كثير، وقدم ملازم بن عمرو عليه، وأما حكاية رجاء بن [ ص: 119 ] مرجا ففي إسناده عبد الله السرخسي وكان متهما.

                                                قوله: "ولكن أبو قيس الأودي لا يحتج بحدثيه" يعارضه قوله: في باب "لا نكاح إلا بولي": مختلف في عدالته. انتهى كلامه.

                                                وأبو قيس هذا وثقه ابن معين، وقال العجلي: ثقة ثبت.

                                                واحتج به البخاري، وأخرج له ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه".

                                                وقوله: "بين عمير وعمار مفازة" يعارضه ما ذكره ابن أبي شيبة : حدثنا ابن فضيل ووكيع ، عن مسعر ، عن عمير بن سعيد، قال: "كنت جالسا في مجلس فيه عمار بن ياسر، فسئل عن مس الذكر في الصلاة، فقال: ما هو إلا بضعة منك"، وهذا سند صحيح، وفيه تصريح بأنه لا مفازة بينهما.

                                                وقوله: "عمار وابن عمر استويا"، ليس كذلك؛ لأن مع عمار ابن مسعود وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - والأسانيد بذلك صحاح كما ذكر ابن عبد البر، وقد ذكر الطحاوي أنه لم يفت بالوضوء منه من الصحابة غير ابن عمر - رضي الله عنهما - فحينئذ لا نسلم الاستواء.

                                                وقوله: "فإنما قال بالرأي" غير مسلم؛ لأنه كيف يكون ذلك وقد صح الحديث فيه؟! فافهم.

                                                وأما قول الطحاوي: "فإن كان هذا الباب" أي: هذا النوع من الحكم يؤخذ من طريق إسناد الأحاديث من حيث الصحة والاستقامة، فحديث ملازم بن عمرو هذا الذي مضى أحسن إسنادا من أحاديث الخصم، فتكون أولى بالقبول وأحق بالعمل به.

                                                وإن كان يؤخذ من طريق النظر والقياس؛ فالقياس يقضي ألا ينتقض الوضوء بالمس بباطن الكف، كما لا ينتقض بالمس بظاهره أو بذراعه بالإجماع والجامع أن [ ص: 120 ] كلا منهما مس في موضع مخصوص.

                                                وكذا لو مسه بفخذه لا ينتقض الوضوء، مع أن الفخذ عورة، فبالأولى ألا ينتقض وضوءه بالمس بباطن كفه التي هي ليست بعورة.

                                                وتعليل بعض الشافعية المس بباطن الكف بأنه مظنة خروج شيء تعليل فاسد؛ لأنه يلزم منه ألا ينتقض الوضوء عند تحققه بعدم الخروج، وكذا في مس الدبر، وكذا في مس المرأة فرجها، وكذا في مس ذكر غيره، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية