الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                570 571 ص: ففي هذين الأثرين منع الجنب من قراءة القرآن، وفي أحدهما منع الحائض من ذلك، فثبت بما ذكرنا في هذين الحديثين مع ما في حديث علي - رضي الله عنه - أنه لا بأس بذكر الله تعالى وقراءة القرآن في حال الحدث غير الجنابة، وأن قراءة القرآن خاصة مكروهة في حال الجنابة والحيض، فأردنا أن ننظر أي هذه الآثار بأخرة فنجعله ناسخا لما تقدم، فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا قال: ثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان، عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء ، عن أبيه ، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أجنب أو أهراق الماء إنما نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ".

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله-: فأخبر علقمة في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حكم الجنب

                                                [ ص: 226 ] كان عنده قبل نزول هذه الآية ألا يتكلم، وألا يرد السلام، حتى نسخ الله -عز وجل- ذلك بهذه الآية، فأوجب بها الطهارة على من أراد الصلاة خاصة، فثبت بذلك أن حديث أبي الجهيم، وحديث ابن عمر، 5 وابن عباس، 5 والمهاجر ، منسوخة كلها، وأن الحكم الذي في حديث علي - رضي الله عنه - متأخر عن الحكم الذي فيها.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بهذين الأثرين: أثر عبد الله بن عمر، وأثر مالك بن عبادة الغافقي .

                                                قوله: "فأردنا ... " إلى آخره، إشارة إلى وجه التوفيق بين هذه الآثار المذكورة في هذا الباب؛ لأن بعضها يضاد بعضا، وذلك لأن حديث أبي الجهيم بن الحارث، وحديث عبد الله بن عمر: "أن رجلا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " إلى آخره، وحديث ابن عباس مثله، وحديث المهاجر بن قنفذ الذي في أول الباب؛ كلها تدل على أن ذكر الله وغيره نحو القراءة لا تكون إلا على طهر، وأحاديث غير هؤلاء التي ذكرت هنا تدل [1\ق146-ب] على إباحة ذكر الله تعالى على أي حالة كانت، وأن قراءة القرآن تجوز على حال الحدث الأصغر، وتمنع على حال الحدث الأكبر والحيض والنفاس، فلما كان الأمر كذلك؛ وجب المصير إلى التوفيق، ووجهه: أن ننظر أي من هذه الآثار جاء آخرا، وأيها جاء أولا، فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديث علقمة بن الفغواء دل على أن آثار أبي الجهم وابن عمر وابن عباس والمهاجر بن قنفذ كانت متقدمة، وأن الحكم الذي في حديث علي - رضي الله عنه - متأخر عن الحكم الذي فيها؛ فثبت بها انتساخ أحاديث هؤلاء كما هو الأصل عند تعارض النصوص.

                                                فإن قلت: حديث جابر الجعفي غير ثابت فلا يتم به الاستدلال.

                                                قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن سفيان يقول: كان جابر ورعا في الحديث ما رأيت أورع في الحديث منه، وعن شعبة: وهو صدوق في الحديث، وعن وكيع: ثقة، ولئن سلمنا ذلك فنقول آثار هؤلاء محمولة على الفضيلة والاستحباب، وقد يقال: إنها منسوخة بحديث عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه".

                                                [ ص: 227 ] وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره كما ذكرناه، ثم رجال حديث عبد الله بن علقمة كلهم ثقات.

                                                وأبو كريب اسمه محمد بن العلاء، شيخ الجماعة ، ومعاوية بن هشام: أبو الحسن القصار الكوفي، روى له الجماعة إلا البخاري ، وسفيان هو الثوري ، وجابر هو ابن يزيد الجعفي وقد ذكرناه الآن، وعبد الله بن أبي بكر روى له الجماعة، وعبد الله بن علقمة بن الفغواء -بالفاء، والغين المعجمة الساكنة-، ذكره ابن حبان في الثقات، وأبوه علقمة بن الفغواء أخو عمرو بن الفغواء الخزاعي، يقال: له صحبة، سكن المدينة ، وأخرج ابن الأثير هذا الحديث في ترجمة علقمة بن الفغواء، وأخرجه أيضا أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن"، والطبراني في "الكبير" .

                                                قوله: "إذا أجنب" أي إذا صار جنبا، مثل: أغد البعير، إذا صار ذا غدة.

                                                قوله: "أو أهراق" أي أراق، والهاء زائدة.

                                                ويستفاد منه: أن الوضوء كان لا بد منه لرد السلام ونحوه في صدر الإسلام، ولهذا كان رسول الله - عليه السلام - لا يرد السلام في الجنابة، ولا بعد إراقة الماء قبل الغسل والوضوء، فلما نزلت آية الوضوء نسخت هذا الحكم لأنه لم يوجب الطهارة إلا على من أراد الصلاة وهو محدث، فبقي غيرها على أصل الإباحة.

                                                ثم اعلم أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت في قصة عائشة - رضي الله عنها -، ولا خلاف أن الوضوء كان بمكة سنة، معناه أنه كان مفعولا بالسنة، فأما حكمه فلم يكن قط إلا فرضا، كذا قاله أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن، وقال: وقد روى ابن إسحاق وغيره: "أن النبي - عليه السلام - لما فرض الله عليه الصلاة ليلة الإسراء، ونزل جبريل - عليه السلام - ظهر ذلك اليوم ليصلي به، همز بعقبة فانبجثت ماء، فتوضأ معلما له، وتوضأ هو معه وصلى، وصلى رسول الله - عليه السلام -" وقال في تفسير قوله: وإن كنتم مرضى أو على [ ص: 228 ] ، روي أن أصحاب رسول الله - عليه السلام - أصابتهم جراحة ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك فنزلت هذه الآية.

                                                وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "كنت في مسير مع رسول الله - عليه السلام - حتى إذا كنت بذات الجيش؛ ضل عقد لي ... " الحديث، قال: فنزلت آية التيمم، وهي معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد ، هما آيتان فيهما ذكر التيمم، إحداهما في النساء، والأخرى في المائدة، فلا نعلم أية آية عنت عائشة، وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة المريسيع ، قال خليفة بن خياط: في سنة ست من الهجرة، وقال غيره: سنة خمس؛ وليس بصحيح، وحديثهما يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم، والله أعلم كيف كان حال من عدم الماء ثم جاءت عليه الصلاة؟ فإحدى الآيتين [1\ق146-أ] سفرية والأخرى حضرية، ولما كان أمر لا يتعلق به خبأه الله تعالى ولم ينشر بيانه على يد أحد ، ولقد عجبت من البخاري بوب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم فقال : باب "وإن كنتم مرضى أو على سفر" وأدخل فيه حديث عائشة، وبوب في سورة النساء، باب "فلم تجدوا ماء"، وأدخل حديث عائشة بعينه، وإنما أراد أن يدل على أن الآيتين تحتمل كل واحدة منهما قصة عائشة، وأراد فائدة أشار إليها، أن قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى هذا الحد نزل في قصة، على أن ما وراءها قصة أخرى، وحكم آخر يتعلق به شيء، فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها، والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أن آية الوضوء التي يذكر التيمم فيها في المائدة هي النازلة في قصة عائشة، وكان الوضوء مفعولا غير متلو فكمل ذكره، وعقب بذكر بدله، واستوفيت النواقص فيه، ثم أعيدت من قوله: وإن كنتم إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله

                                                [ ص: 229 ] تعالى: جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا حتى يكمل تلك الآية في سورة النساء، والذي يدل على أن قصة عائشة هي آية المائدة؛ إن المفسرين بالمدينة اتفقوا أن المراد بقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة يعني من النوم، وكان ذلك في قصة عائشة - رضي الله عنها -، وقال الصفاقسي كلاما طويلا ملخصه: أن الوضوء كان لازما لهم، وآية التيمم إما المائدة أو النساء، وهما مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلا بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يذكر الوضوء لكونه متقدما متلوا؛ لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء.

                                                وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية وهو فرض الوضوء، ثم نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهو تمام الآية، وهو وإن كنتم مرضى أو يحتمل أن يكون الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا، فعبرت بالتيمم إذ كان هو المقصود، وقال القرطبي وغيره أرادت آية النساء؛ لأن آيتها لا ذكر فيها للوضوء.




                                                الخدمات العلمية