الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                676 677 [ ص: 428 ] ص: قال أبو جعفر - رحمه الله -: فقد اضطرب علينا حديث عمار هذا، غير أنهم جميعا قد نفوا أن يكون بلغ المنكبين والإبطين، فثبت بذلك انتفاء ما روي عنه في حديث عبيد الله، ، عن أبيه، أو ابن عباس، وثبت أحد القولين الآخرين، فنظرنا في ذلك فإنا أبو جهيم قد روى عن رسول الله -عليه السلام- أنه يمم وجهه وكفيه، فذلك حجة لمن ذهب إلى أن التيمم إلى الكفين.

                                                روى نافع، عن ابن عباس، عن النبي -عليه السلام-: "أنه تيمم إلى مرفقيه" وقد ذكرت هذين الحديثين جميعا في باب: "قراءة الجنب والحائض".

                                                وقد حدثنا محمد بن الحجاج ، قال: أنا علي بن معبد ، قال: أنا أبو يوسف ، عن الربيع بن بدر ، قال: حدثني أبي ، عن جدي ، عن أسلع التميمي ، قال: " كنت مع النبي -عليه السلام- في سفر، فقال لي: يا أسلع، ، قم فأرحل لنا، قلت: يا رسول الله -عليه السلام- أصابتني جنابة بعدك، قال: فسكت عني حتى أتاه جبريل -عليه السلام- بآية التيمم، فقال لي: يا أسلع، قم فتيمم صعيدا طيبا، ضربتين: ضربة لوجهك، وضربة لذراعيك، ظاهرهما وباطنهما، فلما انتهينا إلى الماء، قال لي: يا أسيلع قم فاغتسل". .

                                                فلما اختلفوا في التيمم كيف هو، واختلفت هذه الروايات فيه، رجعنا إلى النظر في ذلك؛ لنستخرج به من هذه الأقاويل قولا صحيحا، فاعتبرنا ذلك فوجدنا الوضوء على الأعضاء التي قد ذكرناها في كتابه، وكان التيمم قد أسقط عن بعضها؛ فأسقط عن الرأس والرجلين، فكان التيمم هو على بعض ما عليه الوضوء، فبطل بذلك قول من قال: إنه إلى المنكب؛ لأنه لما بطل عن الرأس والرجلين، وهما مما يوضآن، كان أحرى أن لا يجب على ما لا يوضأ.

                                                ثم اختلف في الذراعين، هل يؤممان أم لا؟ فرأينا الوجه الذي يؤمم بالصعيد كما يغسل بالماء، ورأينا الرأس والرجلين لا يؤمم منهما شيء، فكان ما سقط التيمم عن بعضه سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم، كان كالوضوء سواء؛ لأنه جعل بدلا منه.

                                                [ ص: 429 ] فلما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين في حال وجود الماء تيمم في حال عدمه؛ ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا ونظرا على ما بينا من ذلك.

                                                وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله -.

                                                التالي السابق


                                                ش: ملخص هذا الكلام، أن حديث عمار لا يصلح حجة في كون التيمم إلى المرفقين أو الكوعين أو الكفين، كما ذهبت إلى كل واحد طائفة من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما قد رأيت، ولذلك قال الترمذي: وقد ضعف بعض أهل العلم حديث عمار -رضي الله عنه- في التيمم للوجه والكفين، لما روي عنه حديث المناكب والآباط.

                                                ولكنه يندفع به ما روي عنه في حديث عبيد الله ، عن أبيه، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عمار .

                                                وفي حديث عبيد الله أيضا، عن ابن عباس ، عن عمار، المذكورين في أول الباب، اللذين فيهما: "فمسحنا وجوهنا وأيدينا إلى المناكب".

                                                وذلك لأنه قد روى عن النبي -عليه السلام- أنه أمر بالتيمم للوجه والكفين، فلا يجوز ذلك إلا بعد أن ثبت انتساخ حكم الأول، كما قد ذكرنا، أو ثبت بعد ذلك أحد القولين الآخرين - بفتح الخاء - وهما قول من يرى التيمم إلى الكفين، وقول من يراه إلى المرفقين، ولكن من غير ترجيح أحدهما على الآخر، فلا يتم به الاستدلال أيضا لواحد من الفريقين.

                                                فوجدنا حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري يرجح قول من يقول: التيمم إلى الكفين؛ لأنه ذكر في حديثه أنه -عليه السلام- مسح بوجهه وبيديه، ووجدنا حديث نافع عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرجح قول من يقول: التيمم إلى المرفقين؟ لأنه ذكر في حديثه أنه تيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فتيمم لذراعيه، وقد ذكرهما الطحاوي في باب: قراءة الجنب والحائض. وتكلمنا فيهما بما فيه الكفاية هناك.

                                                [ ص: 430 ] وحديث الأسلع أيضا يرجح قول من يقول إلى المرفقين؛ لأنه ذكر: فيه "ضربة لوجهك وضربة لذراعيك ظاهرهما وباطنهما".

                                                فلما وقع هذا الاختلاف باختلاف الروايات، وأخذت كل طائفة برواية، (نحتاج) في ذلك إلى النظر ليستخرج من هذه الأقاويل قول صحيح يوافق القياس والنظر، كما هو الأصل والقاعدة.

                                                وفي ذلك قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت، كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، قياسا على الوضوء، واتباعا لفعل ابن عمر -رضي الله عنه-.

                                                وأشار إلى وجه النظر بقوله: فاعتبرنا ذلك، فوجدنا الوضوء.. إلى آخره.

                                                تحريره: أن الوضوء يكون على الأعضاء الأربعة غسلا ومسحا، ثم إن الشارع جعل التيمم بدلا منه عند عدم الماء، وأسقط منه بعض الأعضاء، (الذي أمر به في الأصل، وهو) الرأس والرجلان، تيسيرا على عباده، ولئلا يتساوى البدل والمبدل منه، فيكون التيمم على بعض ما عليه الوضوء وهو الوجه واليدان، فيجب أن يكون البدل ها هنا مثل الأصل؛ لئلا يلزم مزية الفرع على الأصل، فبطل حينئذ قول من قال: إن التيمم إلى الآباط والمناكب، وذلك لأنه لما بطل التيمم عن الرأس والرجلين، والحال أنهما مما يجب غسلهما ومسحهما، كان بطريق الأولى أن لا يجب التيمم على ما لا يوضأ، وهو ما وراء المرفقين.

                                                ثم بقي الكلام في الذراعين اللذين وقع فيهما الخلاف؛ هل يدخلان تحت التيمم أم لا؟ فرأينا الرأس والرجلين لا يقع عليهما التيمم، فكان ما سقط التيمم عن بعضه

                                                [ ص: 431 ] سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم كان كالوضوء سواء؛ لأنه جعل بدلا منه.

                                                ولما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين، في حال وجود الماء، يقع عليه التيمم في حال عدم الماء، ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا ونظرا على الأصل.

                                                قوله: "الأقاويل" جمع: أقوال، جمع: قول، ويجوز أن يكون جمع أقوولة؟ كأغاليط جمع أغلوطة. قوله: "مما يوضآن" على صيغة المجهول، أي: مما يدخلان في الوضوء، تحت الغسل والمسح.

                                                قوله: "هل يؤممان" على صيغة المجهول أيضا، أي: مما يدخلان في التيمم؛ هو من يمم ييمم - بيائين - ويجوز يؤمم بإبدال الثانية همزة، يقال: أم وتأمم ويمم وتيمم، كلها بمعنى واحد.

                                                قوله: "سواء" بالنصب لأنه حال، معناه: متساويا، أو متساوية، بحسب ما يقتضيه المقام.

                                                ثم إنه أخرج حديث الأسلع بن شريك الأعرجي التميمي، خادم النبي -عليه السلام- وصاحب راحلته.

                                                عن محمد بن الحجاج الحضرمي .

                                                عن علي بن معبد بن شداد الرقي، أحد أصحاب محمد بن الحسن، وثقه أبو حاتم .

                                                عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، الإمام المشهور القاضي، أكبر أصحاب أبي حنيفة .

                                                عن الربيع بن بدر التميمي السعدي الأعرج، المعروف بعليلة، قال أبو حاتم: ضعيف ذاهب الحديث، وأبوه بدر بن عمرو التميمي السعدي قال في "الميزان": لا يدرى حاله وفيه جهالة، وجده هو عمرو بن جراد التميمي، لم أعرف حاله.

                                                [ ص: 432 ] وأخرجه الطبراني في "الكبير": نا محمد بن عبد الله الحضرمي والحسن بن إسحاق التستري قالا: ثنا يحيى الحماني، نا الربيع بن بدر ، عن أبيه، عن جده، عن الأسلع - رجل من بني الأعرج بن كعب - قال: "كنت أخدم النبي -عليه السلام- فقال لي: يا أسلع، قم أرني كذا وكذا، قلت: يا رسول الله -عليه السلام- أصابتني جنابة، فسكت عني ساعة حتى جاءه جبريل -عليه السلام- بالصعيد التيمم، قال: قم يا أسلع فتيمم، قال: ثم [أراني] الأسلع كيف علمه رسول الله -عليه السلام- التيمم، قال: ضرب رسول الله -عليه السلام- بكفيه الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه حتى أمر على لحيته، ثم أعادهما إلى الأرض، فمسح بكفيه فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما، ثم مسح ذراعيه [ظاهرهما وباطنهما].

                                                وأخرجه الدارقطني، وليس فيه ذكر جبريل ولا نزول آية التيمم.

                                                وكذلك البيهقي في "سننه": وأبو بكر الرقي في "معرفة الصحابة" والجاحظ في كتاب "البرهان".

                                                وابن الأثير في كتاب "الصحابة"، وابن حزم في "المحلى"، ثم قال: رويناه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن عليلة وهو الربيع بن بدر ، عن أبيه، عن جده، عن الأسلع [وكل] من ذكرنا فليسوا بشيء، انتهى.

                                                وما قيل: إن بين هذا وبين حديث العقد تناقضا، فقد مر جوابه.

                                                [ ص: 433 ] فإن قلت: هذا الحديث ضعفه في "النهاية"، فما بال الطحاوي احتج به؟

                                                قلت: الطحاوي إمام، فيمكن أن يكون قد ثبت عنده، ووثق من ضعفه غيره.

                                                ولئن سلمنا ذلك فليس الاحتجاج بانفراده هو، وإنما أخرجه في معرض شاهد وتابع لغيره طلبا للتأكيد، فافهم.

                                                قوله: "فأرحل لنا" من قولهم: رحلت البعير أرحله رحلا إذا شددت على ظهره الرحل من باب: نصح ينصح.

                                                قوله: "صعيدا طيبا" أي أرضا طاهرة. قال الأصمعي: الصعيد وجه الأرض.

                                                فقيل: بمعنى مفعول، أي مصعود عليه، وحكاه ابن الأعرابي، وكذا قاله الخليل وثعلب.

                                                وفي "الجمهرة": وهو التراب الذي لا يخالطه رمل ولا سبخ، هذا قول أبي عبيدة .

                                                وقيل: هو الظاهر من وجه الأرض.

                                                وقال الزجاج في "المعاني": الصعيد وجه الأرض ولا يبالى، كان في الموضع تراب أم لم يكن؛ لأن الصعيد ليس اسما للتراب، إنما هو وجه الأرض، ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه، أو غيره، قال تعالى: فتصبح صعيدا زلقا فأعلمك أن الصعيد يكون زلقا.

                                                وعن قتادة: الصعيد الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر.

                                                وقال أبو إسحاق: الطيب: النظيف، وأكثر العلماء على أنه الطاهر، وقيل: الحلال، وقيل: الطيب: ما تستطيبه النفس.

                                                [ ص: 434 ] قوله: "يا أسلع، قم فاغتسل" وقع في بعض النسخ بالتصغير.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: أن التيمم كما يجوز عند الحدث الأصغر، فكذلك يجوز عند الحدث الأكبر.

                                                الثاني: عدم جوازه بغير ما كان من جنس الأرض، ويجوز بكل ما كان من جنس الأرض حتى بالغبار.

                                                وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز.

                                                وعند مالك يجوز بالتراب، والرمل، وبالحشيش، والشجر، والثلج، والمطبوخ كالجص والآجر.

                                                وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج والجلد. ونقل النقاش عن ابن علية وابن كيسان جوازه بالمسك والزعفران.

                                                وعن إسحاق: منعه بالسباخ. ويجوز عند أبي حنيفة بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر الأملس المغسول، والجص والنورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا، والطين الأحمر والأسود والأبيض، والحائط المطين والمجصص، والياقوت والزبرجد والزمرد والفيروزج والمرجان والأرض الندية والطين الرطب.

                                                وفي "البدائع": يجوز بالملح الجبلي. وفي "قاضي خان": لا يجوز على الأصح، ولا يجوز بالزجاج، ويجوز بالآجر في ظاهر الرواية.

                                                وشرط الكرخي أن يكون مدقوقا. وفي "المحيط": لا يجوز بمسبوك الذهب والفضة، ويجوز بالمختلط بالتراب، إذا كان التراب غالبا، وبالخزف، إذا كان من

                                                [ ص: 435 ] طين خالص. وفي المرغيناني: يجوز بالذهب والفضة والحديد والنحاس وشبهها ما دام على الأرض.

                                                وذكر الشاشي في "الحلية": لا يجوز التيمم بتراب خالطه دقيق، أو (جص) وحكى وجها آخر أنه يجوز إذا كان التراب غالبا.

                                                ولا يصح التيمم بتراب استعمل في التيمم، وعند أبي حنيفة يجوز، وهو وجه لبعض أصحابنا. ومذهب الشافعي وأحمد: لا يجوز إلا بالتراب الذي له غبار.

                                                في "المغني" لابن قدامة: قال الأوزاعي: الرمل من الصعيد، وقال حماد بن أبي سليمان: لا بأس أن يتيمم بالرخام. وعن أحمد في رواية في السبخة والرمل: أنه يجوز التيمم به. فإن دق الخزف والطين المحترق لم يجز التيمم به، فإن ضرب بيده على لبد أو ثوب أو الجوالق أو البرذعة، أو في الشعير، فعلق بيديه غبار فتيمم به جاز. نص أحمد على ذلك كله.

                                                وإذا خالط التراب ما لا يجوز التيمم به كالنورة والزرنيخ والجص، قال القاضي: حكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، إن كانت الغلبة للتراب جاز، وإن كانت الغلبة للمخالط لم يجز.

                                                وقال ابن عقيل: يمنع وإن كان قليلا. وهو مذهب الشافعي .

                                                وإذا كان في طين لا يجد ترابا، فحكى عن ابن عباس أنه قال: يأخذ الطين فيطلي به جسده، فإذا جف تيمم به. وإن خاف فوات الوقت قبل جفافه فهو كالعادم. وإن لطخ وجهه بطين لم يجز؛ لأنه لا يقع عليه اسم الصعيد.

                                                الثالث: أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة للذراعين.

                                                [ ص: 436 ] الرابع: دخول المرفقين فيه، من قوله: "ظاهرهما وباطنهما"؛ لأن المرفق داخل في حكم الذراع.

                                                الخامس: أن الجنب إذا تيمم وصلى، ثم وجد الماء يغتسل، فإن ذلك يرفع تيممه.




                                                الخدمات العلمية