الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                827 ص: ثم قد روي عن بلال -رضي الله عنه- أنه كان بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- يؤذن مثنى مثنى ويقيم مثنى مثنى ، فدل ذلك أيضا على انتفاء ما روى أنس -رضي الله عنه-.

                                                حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، قال: ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن بلال : "أنه كان يثني الأذان، ويثني الإقامة" .

                                                [ ص: 40 ] حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا محمد بن سنان ، قال: نا شريك (ح).

                                                وحدثنا روح بن الفرح ، قال: ثنا محمد بن سليمان لوين ، قال: ثنا شريك ، عن عمران بن مسلم ، عن سويد بن غفلة ، قال: "سمعت بلالا يؤذن مثنى، ويقيم مثنى" فهذا بلال قد روي عنه في الإقامة ما يخالف ما ذكره أنس -رضي الله عنه-.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما بين ما روي عن بلال من تثنية الإقامة في حياة النبي -عليه السلام- الذي يخالف ما رواه أنس عنه من أنه أمر بأن يوتر الإقامة، أكد ذلك بما روي عنه أيضا من أنه كان يثني الإقامة بعد النبي -عليه السلام- أيضا، مثل ذلك يدل على انتفاء ما رواه أنس ، وأن العمل على حديث عبد الله بن زيد ؛ لأنه هو أصل الأذان والإقامة في تثنية ألفاظهما.

                                                فإن قيل: قال ابن حزم : لم يؤذن بلال لأحد بعد رسول الله إلا مرة واحدة بالشام للظهر أو العصر ولم يستتم الأذان فيها .

                                                قلت: لا نسلم ذلك؛ لعدم الدليل الصحيح عليه، ولئن سلمنا ذلك فلا يضرنا؛ لأن النزاع في الإقامة، ولا شك أن بلالا إذا صلى كان يقيم، وكان يقيم مثنى مثنى وإن كان لا يقيم بنفسه بعد كان يسمع من يقيم، ولو أمر من يقيم بالإفراد أو منع من يقيم مثنى لنقل عنه ذلك، فحيث لم ينقل دل على أن الإقامة عنده مثنى مثنى، ولم يتغير حكمها عما كان عليه في حديث عبد الله بن زيد الأنصاري -رضي الله عنه-.

                                                ثم إنه أخرج ما روي عن بلال - من تثنية الإقامة - من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن أحمد بن داود المكي ، وثقه ابن يونس .

                                                عن يعقوب بن حميد شيخ البخاري في كتاب "الأفعال" ووثقه يحيى وابن حبان .

                                                عن عبد الرزاق بن همام صاحب "المصنف".

                                                عن معمر بن راشد .

                                                عن حماد بن أبي سليمان الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة ، روى له مسلم مقرونا بغيره، واحتجت به الأربعة.

                                                عن إبراهيم النخعي .

                                                [ ص: 41 ] عن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي .

                                                عن بلال ... إلى آخره.

                                                وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه": أنا معمر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد : "أن بلالا كان يثني الأذان، ويثني الإقامة، وإن كان يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير" .

                                                وأخرجه الدارقطني في "سننه": ثنا محمد بن إسماعيل الفارسي ، ثنا إسحاق بن إبراهيم ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ... إلى آخره نحوه.

                                                فإن قيل: قال ابن الجوزي في "التحقيق": والأسود لم يدرك بلالا .

                                                قلت: قال صاحب "التنقيح": وفيما قاله نظر؛ وقد روى النسائي للأسود عن بلال -رضي الله عنه- حديثا.

                                                الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد .

                                                عن محمد بن سنان العوقي .

                                                عن شريك بن عبد الله النخعي .

                                                عن عمران بن مسلم المنقري البصري القصير .

                                                عن سويد بن غفلة بن عوسجة أبي أمية الكوفي .

                                                وأخرجه الحاكم ثم البيهقي في "الخلافيات" وعلله الحاكم بأنه مرسل، وأن سويدا لم يدرك أذان بلال ، وإقامته في عهد النبي -عليه السلام- وأن شريكا وعمران غير محتج بهما في "الصحيح".

                                                [ ص: 42 ] قلت: سويد أدرك الجاهلية ولم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدى الزكاة لمصدق رسول الله -عليه السلام-، فهو وإن لم يدرك أذان بلال وإقامته في عهد النبي -عليه السلام- فلا مانع من إدراكه لهما في عهد أبي بكر -رضي الله عنه-؛ فقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره: "أن بلالا أذن حياة النبي -عليه السلام-، ثم أذن لأبي بكر -رضي الله عنه- حياته ولم يؤذن لعمر -رضي الله عنه-، فقال له عمر : ما يمنعك أن تؤذن؟ فقال: إني أذنت لرسول الله -عليه السلام- ثم قبض، وأذنت لأبي بكر حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله -عليه السلام- يقول: يا بلال ، ليس عمل أفضل من [عملك هذا إلا] الجهاد في سبيل الله، فخرج وجاهد" .

                                                وفي "الخلافيات" للبيهقي أيضا؛ أنه أذن لأبي بكر -رضي الله عنه-.

                                                ورواية الطحاوي تصح بالسماع.

                                                وأما شريك فإن الحاكم صحح روايته في المستدرك، وأخرج له مسلم متابعة.

                                                وعمران بن مسلم وثقه يحيى وأبو حاتم وغيرهما، فلا يعارض ذلك بعدم الاحتجاج بهما في الصحيح.

                                                الثالث: عن روح بن الفرح القطان المصري .

                                                عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي العلاف، المعروف بلوين - بضم اللام وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون - شيخ أبي داود والنسائي ، ووثقه ابن حبان وغيره.

                                                عن شريك النخعي ... إلى آخره.

                                                وقد روى الطبراني أيضا بإسناده إلى بلال : "أنه كان يجعل الأذان والإقامة سواء مثنى مثنى، وكان يجعل إصبعيه في أذنيه" .

                                                [ ص: 43 ] وأخرجه الدارقطني في "سننه" بإسناده إلى بلال : "أنه كان يؤذن للنبي -عليه السلام- مثنى مثنى، ويقيم مثنى مثنى" .

                                                فإن قيل: ضعف ابن حبان هذا الحديث بزياد البكائي .

                                                قلت: لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن أحمد وثقه، وقال أبو زرعة : صدوق، واحتج به مسلم .




                                                الخدمات العلمية