الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                897 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك:

                                                ما حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا عبيد الله بن معاذ ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي الأحوص ، عن علقمة ، عن عبد الله قال: " كنا مع النبي -عليه السلام- في بعض أسفاره، فسمع مناديا وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر . فقال النبي -عليه السلام-: على الفطرة: فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله -عليه السلام-: خرج من النار. قال: فابتدرناه؛ فإذا صاحب ماشية أدركته الصلاة فنادى بها" .

                                                قال أبو جعفر : فهذا رسول الله -عليه السلام- قد سمع المنادي ينادي فقال غير ما قال، فدل ذلك أن قوله: "إذا سمعتم المنادي فقولوا مثل الذي يقول " ليس على الإيجاب، وأنه على الاستحباب والندبة إلى الخير وإصابة الفضل، كما قد علم من الدعاء الذي أمرهم أن يقولوه في دبر الصلوات وما أشبه ذلك، والله أعلم.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما قالوه: حديث ابن مسعود ؛ فإنه يدل على أن إجابة المؤذن غير واجبة؛ لأنه -عليه السلام- قد سمع ذلك المنادي ولم يقل مثل ما قال المنادي بل قال غير ما قاله، فلو كانت الإجابة واجبة لكان -عليه السلام- [ ص: 130 ] أجابه بمثل ما قال فدل ذلك على أن الأمر في قوله -عليه السلام-: "فقولوا مثل الذي يقول " ليس على الإيجاب، وأنه على الاستحباب وإصابة الفضل كما في سائر الأدعية التي علمها رسول الله -عليه السلام- أمته أن يقولوها في أدبار الصلوات وما أشبه ذلك.

                                                قلت: فيه نظر؛ لأن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على الوجوب ولا سيما قد تأيد ذلك بما روي من الآثار والأخبار في الحث على الإجابة.

                                                وقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن المسيب بن رافع ، عن عبد الله قال: "من الجفاء أن تسمع المؤذن ثم لا تقول مثل ما يقول" .

                                                ولا يكون من الجفاء إلا ترك الواجب، وترك المستحب ليس من الجفاء ولا تاركه جاف.

                                                وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي إجابة الرسول -عليه السلام- لذلك المنادي بمثل ما قال، وترك الراوي ذكره لأنه يمكن أن يكون قد قال مثل ما قال ذلك المنادي ثم قال ما قال، أو قال ما قال ثم أجاب، فتقدم ما قال على الإجابة يكون لمصلحة ظهرت له في ذلك الوقت، أو يكون الأمر بالإجابة بعد هذه القضية.

                                                قوله: "والندبة" بفتح النون: الدعوة، من ندبه الأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب، وأما الندبة - بضم النون - فهو اسم للندب من ندب على الميت إذا بكى عليه وعدد محاسنه، والندب - بالتحريك - الخطر والندب أيضا: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد.

                                                قوله: "في دبر الصلوات" أي: عقيبها وأدبارها، ودبر كل شيء عقيبه.

                                                قوله: "وما أشبه ذلك" أي: من الأدعية التي علمهم النبي -عليه السلام- أن يقولوها عند الصباح والمساء ونزول المطر وهبوب الريح وركوب الدابة ونحو ذلك.

                                                [ ص: 131 ] ثم إسناد حديث عبد الله بن مسعود صحيح على شرط مسلم ، وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن نضلة الأشجعي الكوفي .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه": من حديث عبد الوهاب بن عطاء ، أنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الأحوص ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : "بينما نحن مع رسول الله -عليه السلام- في بعض أسفاره إذ سمعنا مناديا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله -عليه السلام-..." إلى آخره نحوه.

                                                وأخرج مسلم : من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: حدثني زهير بن حرب ، قال: ثنا يحيى - يعني ابن سعيد - عن حماد بن سلمة ، قال: نا ثابت ، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله -عليه السلام- يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار. قال: فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله -عليه السلام-: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله -عليه السلام-: حرمت من النار. فنظروا فإذا هو راعي معزى" .

                                                قوله: "على الفطرة" أي: على الإسلام إذ كان الأذان شعارهم، ولهذا كان -عليه السلام- إذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار ؛ لأنه كان فرق ما بين بلد الكفر وبلد الإسلام.

                                                قوله: "خرج من النار" أراد بتوحيده وصحة إيمانه؛ لأن ذلك منج من النار.

                                                فإن قيل: كيف يكون مجرد القول بلا إله إلا الله إيمانا؟

                                                قلت: هو إيمان ثابت في حق المشرك وحق من لم يكن بين المسلمين، أو يخالط المسلمين لا يصير مؤمنا إلا بالتلفظ بكلمتي الشهادة بل شرط بعضهم التبري مما كان عليه من الدين الذي يعتقده.

                                                قوله: "فابتدرناه" أي: تسارعنا إلى أخذه، وأصله: من بدرت إلى الشيء أبدر بدورا إذا أسرعت إليه، وكذلك بادرت، وتبادر القوم: سارعوا، وابتدروا السلاح: تسارعوا إلى أخذه.

                                                [ ص: 132 ] قوله: "فإذا" كلمة مفاجأة تدخل على الجملة وهي ها هنا.

                                                قوله: "صاحب ماشية أدركته الصلاة" وهي جملة اسمية، والماشية اسم يقع على الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يستعمل في الغنم.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: أن الأذان شعار الإسلام، وقال عياض : فرض على الكفاية واختلف لفظ مالك وبعض أصحابه في إطلاق الوجوب عليه، فقيل: معناه وجوب السنن المؤكدة كما جاء في الجمعة والوتر وغيرهما، وقيل: هو على ظاهره من الوجوب على الكفاية، إذ معرفة الأوقات فرض وليس كل أحد يقدر على مراعاتها، فقام به بعض الناس عن بعض.

                                                وقيل: "سنة" يعني ليس من شرط صحة الصلاة.

                                                واختلف المذهب في أذان الجمعة أهو فرض أم سنة ، فظاهر قول مالك في "الموطإ" أنه على الوجوب في الجماعات والمساجد. وقال به بعض أصحابنا وأنه فرض على الكفاية وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال الأوزاعي وداود في آخرين: فرض، ولم يفصلوا، وروى الطبري عن مالك : إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة، وذهب بعضهم ومعظمهم أصحابنا أنه سنة. والأول هو الصحيح. انتهى.

                                                وقال أحمد : الأذان فرض للصلوات الخمس . وهو قول الإصطخري أيضا في فروع الحنابلة : الأذان والإقامة فرض كفاية حضرا لكل صلاة، فرض عين يقاتل أهل البلد على تركهما ويسنان سفرا، هذا اختيار أبي بكر والقاضي في "المجرد"، والصحيح: أن لا فرق بين الحاضر والمسافر، والقرية والواحد والجماعة، وعنه يسنان إلا الأذان المحرم للبيع يوم الجمعة.

                                                وقال صاحب "البدائع": قد ذكر محمد ما يدل على وجوب الأذان فإنه قال: لو أن أهل بلدة اجتمعوا على ترك الأذان لقاتلتهم عليه ولو تركه واحد ضربته

                                                [ ص: 133 ] وحبسته، وإنما يقاتل ويضرب ويحبس على ترك الواجب، وعامة مشايخنا قالوا: إنهما سنتان مؤكدتان.

                                                قلت: القولان يتنافيان؛ لأن السنة المؤكدة والواجب سواء، خصوصا السنة التي هي من شعار الإسلام فهذا أولى فافهم.

                                                الثاني: فيه حجة في استحباب الأذان للمفرد البادي ؛ لأن الأذان والإقامة من لوازم الجماعة المسلمة ، والسفر لم يسقط الجماعة فلا يسقط ما هو من لوازمها، فإن صلوا بجماعة فأقاموا وتركوا الأذان أجزأهم ولا يكره، ويكره لهم ترك الإقامة بخلاف أهل العصر إذا تركوا الأذان، وذلك لأن السفر سبب الرخصة وقد أثر في سقوط شطر الصلاة، فجاز أن يؤثر في سقوط أحد الأذانين إلا أن الإقامة أكثر ثبوتا من الأذان فيسقط الأذان دون الإقامة.

                                                الثالث: فيه دليل على أن من يقول: لا إله إلا الله لا يؤبد في النار، وأن من لا يقوله لا يخرج من النار.

                                                الرابع: أن الحكم بحسب الظاهر ولا يكلف إلى معرفة الباطن، ألا ترى أنه -عليه السلام- قال: "على الفطرة" حين سمع المنادي يقول: "الله أكبر، الله أكبر" - أي: على الإسلام كما قلنا - ولم يقل شيئا غير ذلك. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية