الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                906 ص: وأما ما ذكر عنه في صلاة الظهر فإنه ذكر عنه أنه صلاها حين زالت الشمس، وعلى ذلك اتفاق المسلمين أن ذلك هو أول وقتها، وأما آخر وقتها فإن ابن عباس وأبا سعيد وجابرا وأبا هريرة -رضي الله عنهم- رووا أنه صلاها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، فاحتمل ذلك على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، وهذا جائز في اللغة، قال الله - عز وجل -: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف فلم يكن ذلك الإمساك والتسريح مقصودا به أن يفعل بعد بلوغ الأجل؛ لأنها بعد بلوغ الأجل قد بانت وحرم عليه أن يمسكها، وقد بين الله - عز وجل - في موضع آخر فقال: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فأخبر الله - عز وجل - أن لهن بعد بلوغ أجلهن أن ينكحن، فثبت بذلك أن [ ص: 165 ] ما جعل للأزواج عليهن في الآية الأخرى إنما هو في قرب بلوغ الأجل لا بعد بلوغ الأجل، فكذلك ما روي عمن ذكرنا عن رسول الله -عليه السلام- أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله يحتمل أن يكون على قرب أن يصير ظل كل شيء مثله، فيكون الظل إذا صار مثله قد خرج وقت الظهر، والدليل على ما ذكرنا من ذلك: أن الذين ذكروا هذا عن النبي -عليه السلام- قد ذكروا عنه في هذه الآثار أيضا أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، ثم قال: "ما بين هذين وقت" فاستحال أن يكون بينهما وقت وقد جمعهما في وقت واحد، ولكن معنى ذلك عندنا - والله أعلم - على ما ذكرنا، وقد دل على هذا أيضا ما في حديث أبي موسى ، وذلك أنه قال فيما أخبر عن صلاته -عليه السلام- في اليوم الثاني: "ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من العصر، فأخبر أنه إنما صلاها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر.

                                                فثبت بذلك إذ أجمعوا في هذه الروايات أن بعد ما يصير ظل كل شيء مثله وقت للعصر؛ أنه محال أن يكون وقتا للظهر؛ لإخباره أن الوقت الذي لكل صلاة فيما بين صلاتيه في اليومين.

                                                وقد دل على ذلك أيضا ما قد حدثنا الربيع المؤذن ، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا محمد بن الفضيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن للصلاة أولا وآخرا، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر " .

                                                فثبت بذلك أن دخول وقت العصر بعد خروج وقت الظهر.

                                                التالي السابق


                                                ش: حاصل هذا الكلام: أنه بين أنه اختار أن وقت الظهر يمتد إلى صيرورة ظل كل شيء مثله كما قال به الجمهور خلافا لأبي حنيفة فيما روى محمد بن الحسن عنه: أنه يمتد إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه.

                                                بيان ذلك: أن قول ابن عباس وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة أنه -عليه السلام- صلاها في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله يحتمل أمرين:

                                                [ ص: 166 ] الأول: أن يكون قد صلاها بعد انتهاء ظل كل شيء مثله؛ فيكون وقت صيرورة ظل كل شيء مثله وقتا للظهر بعد.

                                                والثاني: يحتمل أن يكون المراد أنه صلاها على قرب صيرورة ظل كل شيء مثله، فحينئذ يخرج وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهذا ظاهر.

                                                ثم أيد صحة هذا الاحتمال بقوله: "وهذا جائز في اللغة" يعني ذكر الشيء، والمراد منه: ما يقرب منه لا حقيقة ذلك الشيء، وذلك نحو قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف فإن المراد منه: إذا قربن بلوغ أجلهن وشارفن منتهى عدتهن، وليس المراد حقيقة بلوغ الأجل الذي هو العدة؛ لأن بعد انتهاء العدة تبين المرأة عنه ويحرم عليه بعد ذلك إمساكها؛ لأنها غير زوجة له حينئذ، وفي غير عدة منه، فلا يبقى له سبيل عليها، فعلم أن المراد: إذا شارفن وقربن بلوغ العدة أمسكوهن بمعروف بأن يراجعن من غير طلب ضرار بالمراجعة، أو سرحوهن حتى تنقضي عدتهن، وبين من غير ضرار.

                                                ثم أكثر ما ذكره من التأويل والتوجيه بثلاثة أشياء:

                                                الأول: أن الصحابة -رضي الله عنهم- الذين ذكروا عن النبي -عليه السلام- أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال -عليه السلام-: "ما بين هذين وقت" ، فمن المحال والمستبعد أن يكون ما بينهما وقت والحال أنه جمعهما في وقت واحد، فعلم أن المراد: أنه صلى الظهر في اليوم الثاني على شرف صيرورة ظل كل شيء مثله، وعلى قرب منها.

                                                الثاني: أن حديث أبي موسى لا يصح دليلا على ذلك؛ لأنه أخبر عن صلاته -عليه السلام- في اليوم الثاني بقوله: "ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من العصر" أنه إنما صلاها في ذلك اليوم في قرب دخول وقت العصر لا في وقت العصر، فثبت بذلك أن ما بعد ذلك صيرورة ظل كل شيء مثله وقت للعصر فمحال ومستبعد أن يكون ذلك وقتا للظهر.

                                                [ ص: 167 ] الثالث: أن حديث أبي هريرة يدل على أن وقت العصر بعد خروج وقت الظهر، وقد ثبت في الآثار المذكورة أنه صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، فيكون انتهاء هذا ابتداء وقت العصر، وهذا واضح لمن له فطانة، والله أعلم.

                                                ثم إسناد حديث أبي هريرة صحيح.

                                                والأعمش هو سليمان ، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات .

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا هناد ، قال: ثنا محمد بن الفضيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "إن للصلاة أولا وآخرا، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس" .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في "مصنفه": عن ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "إن للصلاة أولا وآخرا" معناه: أن الصلاة المفروضة تكون في وقت محدد له ابتداء وانتهاء، ولقد بين في هذا الحديث أوائل الصلوات الخمس وأواخرها ، غير أنه قال: "وآخر وقتها" أي وقت صلاة الظهر "حين يدخل وقت العصر، وأن أول وقت العصر حين يدخل وقتها" ، ولم يبين في ذلك انتهاء وقت الظهر ما هو حتى نعلم ابتداء وقت العصر؛ وذلك لما سبق بيانه.

                                                وتقريره عندهم: أنه -عليه السلام- بين ذلك قولا وفعلا كما في الآثار المذكورة.

                                                قوله: "حين تصفر الشمس " أراد به وقت الجواز والضرورة، وإلا فالوقت المستحب في العصر إلى ما قبل اصفرار الشمس.

                                                [ ص: 168 ] قوله: "حين يغيب الأفق" أي الشفق، وقد جاء في رواية: "حين يغيب الشفق" .

                                                قوله: "وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل" أراد وقت القضاء والاستحباب وإلا فقد ثبت بالآثار المذكورة أن آخر وقت العشاء إلى أن يطلع الفجر.

                                                قوله: "حين يطلع الفجر" أراد به الفجر الثاني وهو الفجر الصادق، والله أعلم.



                                                الخدمات العلمية