الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                987 ص: وقد ذكر فيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوف كما جمع بينهما في السفر أفيجوز لأحد في الحضر لا في حال خوف ولا علة أن يؤخر الظهر إلى قرب تغير الشمس ثم يصلي؟ وقد قال رسول الله -عليه السلام- في التفريط في الصلاة ما قد حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو داود ، قال: ثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي قتادة ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة ، بأن يؤخر الصلاة إلى وقت أخرى" .

                                                قال أبو جعفر : فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن تأخير الصلاة إلى وقت التي بعدها تفريط، وقد كان قوله ذلك وهو مسافر، فدل ذلك أنه أراد به المسافر والمقيم، فلما كان مؤخر الصلاة إلى وقت التي بعدها مفرطا؛ استحال أن يكون النبي -عليه السلام- جمع بين الصلاتين بما كان به مفرطا، ولكنه جمع بينهما بخلاف ذلك، فصلى كل واحدة منهما في وقتها.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا أيضا إشارة إلى تأييد صحة تأويل أهل المقالة الثانية في صورة الجمع، أي قد ذكر في الآثار المذكورة أنه -عليه السلام- جمع بين الصلاتين في الحضر وليس في خوف ولا علة، كما مر في حديث جابر -رضي الله عنه-، ثم إنه هل يجوز لأحد في الحضر وليس في خوف ولا علة أن يؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر ثم يجمع بينهما عند تغير الشمس؟ فهذا لم يقل به الخصم أيضا، فدل ذلك على أن المراد [ ص: 272 ] من جمع رسول الله -عليه السلام- بين الصلاتين هو الذي ذكره أهل المقالة الثانية، وكيف وقد أطلق -صلى الله عليه وسلم- على من يؤخر صلاة إلى وقت صلاة أخرى مفرطا ومقصرا وإذا كان هذا مفرطا فمن المحال أن يكون النبي -عليه السلام- جمع بين الصلاتين بصورة يكون فيها مفرطا، لزم من ذلك أنه -عليه السلام- جمع بينهما بصورة ليس فيها تفريط، وهي الصورة التي ذكرها أهل المقالة الثانية، وهي أن يكون قد صلى كل واحدة منهما في وقتها، غير أنه أخر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم الثانية في أول وقتها، فيكون جامعا بين الصلاتين فعلا لا وقتا، من غير تفريط ولا تقصير.

                                                قوله: "أفيجوز لأحد" الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار.

                                                قوله: "وقد قال" جملة وقعت حالا.

                                                وإسناد حديث أبي قتادة صحيح على شرط مسلم ، وأبو بكرة: بكار القاضي ، وأبو داود: سليمان بن داود الطيالسي ، وثابت: هو البناني أبو محمد البصري ، وأبو قتادة : الأنصاري، اسمه الحارث بن ربعي .

                                                وأخرجه مسلم مطولا: ثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا - سليمان - يعني ابن المغيرة - قال: نا ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي قتادة قال: "خطبنا رسول الله -عليه السلام- فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدا، فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، قال أبو قتادة : فبينما رسول الله -عليه السلام- يسير حتى إبهار الليل وأنا إلى جانبه، قال: فنعس رسول الله -عليه السلام-، فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته، فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان في آخر الليل مال ميلة هي أشد من الميلتين الأولتين حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة ، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قال: قلت: مازال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك الله بما حفظت به [ ص: 273 ] نبيه، ثم قال: هل ترانا نخفى عن الناس؟ ثم قال: هل ترى من أحد؟ قلت: هذا ركب، ثم قلت: هذا ركب آخر، حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب، قال: فمال رسول الله -عليه السلام- عن الطريق، فوضع رأسه ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، فكان أول من استيقظ رسول الله -عليه السلام- والشمس في ظهره، قال: فقمنا فزعين، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، قال: فتتوضأ ووضوء دون وضوء قال: وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة : احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، وصلى رسول الله -عليه السلام- ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم، وركب رسول الله -عليه السلام- وركبنا معه، قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: أما لكم في أسوة؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصليها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟ قال: ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدكم لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول الله -عليه السلام- بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشا، فقال: لا هلك عليكم، ثم قال: أطلقوا لي غمري، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله -عليه السلام- يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله -عليه السلام-: أحسنوا الملأ، كلكم سيروى. قال: ففعلوا، فجعل رسول الله -عليه السلام- يصب وأبو قتادة يسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله -عليه السلام-، قال: ثم صب رسول الله -عليه السلام-، فقال لي: اشرب، قلت: لا أشرب حتى تشرب أنت يا رسول الله. قال: إن ساقي القوم آخرهم شربا، قال: فشربت وشرب رسول الله -عليه السلام-. قال: فأتى الناس الماء جامين رواء، قال: فقال عبد الله بن أبي رباح : إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع؛ إذ قال عمران بن [ ص: 274 ] حصين -رضي الله عنه-: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة، قال: فقلت: فأنت أعلم بالحديث. فقال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار ، قال: حدث [فأنتم] أعلم بحديثكم. قال: فحدثت القوم، فقال عمران : لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته" .

                                                وأخرجه أبو داود : نا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن ثابت البناني ، عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري ، قال: نا أبو قتادة : "أن النبي -عليه السلام- كان في سفر له، فمال رسول الله -عليه السلام- فملت معه، فقال: انظر، قلت: هذا راكب، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثة، حتى صرنا سبعة، فقال: احفظوا علينا صلاتنا - يعني صلاة الفجر - فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس، فقاموا فساروا هنية، ثم نزلوا فتوضئوا، وأذن بلال ، فصلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر، وركبوا، [فقال] بعضهم لبعض: قد فرطنا في صلاتنا فقال: رسول الله -عليه السلام-: إنه لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ، ومن الغد للوقت" .

                                                وأخرجه النسائي : أنا سويد بن نصر ، قال: أنا عبد الله ، عن سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي قتادة ، قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط فيمن لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى حين ينتبه لها" .

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا أحمد بن عبدة ، أنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبي قتادة قال: "ذكروا تفريطهم في النوم، فقال: ناموا حتى [ ص: 275 ] طلعت الشمس، فقال رسول الله -عليه السلام-: ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، ولوقتها من الغد، قال عبد الله بن رباح : فسمعني عمران بن الحصين وأنا أحدث بالحديث، فقال: يا فتى انظر كيف تحدث، فإني شاهد هذا الحديث مع رسول الله -عليه السلام-، قال: فما أنكر من حديثه شيئا" .

                                                قوله: "ليس في النوم تفريط " أي تقصير؛ لأن النوم سبب من أسباب العجز، ورفع القلم عن النائم حتى يستيقظ.

                                                فإن قيل: إذا أتلف النائم برجله أو بيده أو غير ذلك من أعضائه شيئا يجب ضمانه، فكيف لا يكون مكلفا؟

                                                قلت: غرامة المتلفات لا يشترط لها التكليف بالإجماع حتى لو أتلف الصبي أو المجنون شيئا يجب ضمانه في حالهما.

                                                قوله: "إنما التفريط في اليقظة" لوجود التقصير من غير عذر، ثم لنشرح مشكلات ما في رواية مسلم لكثير الفائدة:

                                                فقوله: "لا يلوي أحد على أحد" أي: لا يعطف عليه ولا بقطرة.

                                                قوله: "حتى ابهار الليل" أي انتصف، وبهرة كل شيء وسطه، وقيل: ابهار الليل إذا طلعت نجومه واستنارت، والأول أكثر.

                                                قوله: "فدعمته" أي أقمت ميله من النوم بأن صرت تحته كالدعامة لما فوقها، حتى اعتدل.

                                                قوله: "حتى تهور الليل" يعني ذهب أكثره، قاله الهروي ، يقال: تهور الليل وتوهر إذا ذهب أكثره، كما يتهور البناء.

                                                قوله: "حتى كاد ينجفل" أي: ينقلب عن دابته ويسقط، يقال: ضربه فجفله، أي ألقاه على الأرض.

                                                [ ص: 276 ] قوله: "بميضأة" بكسر الميم، وهي المطهرة الكبيرة يتوضأ فيها، قال ابن الأثير : هي بالقصر، وكسر الميم، وقد تمد، ووزنها مفعلة ومفعالة، والميم زائدة.

                                                قوله: "وضوءا دون وضوء" أراد به: تخفيف الوضوء، وقيل: معناه وضوءا دون استنجاء.

                                                قوله: "نبأ" أي خبر وشأن.

                                                قوله: "يهمس" من الهمس، وهو الكلام الخفي.

                                                قوله: "فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" وفي رواية أبي داود : "فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت" قال الخطابي : لا أعلم أحدا قال بهذه اللفظة وجوبا أي قوله: "من الغد للوقت"، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحوز فضيلة الوقت في القضاء.

                                                قوله: "أطلقوا لي غمري" قال أبو عبيد : يقال للقعب الصغير: غمر وتغمرت: أي شربت قليلا قليلا، وقال ابن الأثير : "الغمر" بضم الغين المعجمة، وفتح الميم: القدح الصغير "ومعنى" أطلقوا لي غمري": ائتوني به.

                                                قوله: "تكابوا" أي ازدحموا عليها، وهي تفاعلوا من الكبة بالضم، وهي الجماعة من الناس وغيرهم.

                                                قوله: "أحسنوا الملأ" بفتح الميم واللام والهمزة، أي: أحسنوا الخلق، وقال ابن الأثير : وأكثر قراء الحديث يقرءونها: أحسنوا الملء: بكسر الميم وسكون اللام، من ملء الإناء، وليس بشيء.

                                                قوله: "جامين" بالجيم، نصب على الحال من الناس، ومعناه مجتمعين، وأصله من الجموم والجمة، هو الاجتماع والكثرة.

                                                قوله: "رواء" نصب على الحال أيضا، ومعناه: ضد العطش، وهو جمع ريان، كما أن العطاش جمع عطشان.

                                                [ ص: 277 ] قوله: "فضرب على آذانهم" كلمة فصيحة من كلام العرب، معناه أنه حجب الصوت والحس عن أن يلجأ آذانهم فينتبهوا، ومن هذا قوله تعالى: فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا فكأنها قد ضرب عليها حجاب.

                                                قوله: "هنية" أي قليلا من الزمان، وهي تصغير هنة.

                                                قوله: "فرطنا" أي قصرنا.



                                                الخدمات العلمية