الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1157 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ينبغي له أن يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: محمد بن سيرين وابن أبي ذئب وسالم بن عبد الله والشافعي ومالكا وأحمد وإسحاق ؛ فإنهم قالوا: السنة أن يرفع المصلي يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، وقد نقل ذلك عن عمر وابنه وأبي هريرة ، وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنه كان يرفع يديه في الإحرام حذو منكبيه، وفي غيره دون ذلك " .

                                                وقال القاضي عياض : اختلفت الروايات في ذلك؛ ففي رواية: "حتى يحاذي

                                                [ ص: 499 ] منكبيه" وفي أخرى: "حتى يحاذي بهما أذنيه" وفي أخرى: "فروع أذنيه" وفي أخرى: "فوق أذنيه مدا مع رأسه"، وفي أخرى: "إلى صدره" وبحسب هذه الروايات اختلف العلماء في الاختيار من فعلها، فذهبت عامة أئمة الفتوى إلى الرواية الأولى، وهي أن يرفعهما حذو منكبيه، وهو أصح قولي مالك وأشهره، والرواية الأخرى عنه إلى صدره، وذهب ابن حبيب إلى رفعهما حذو أذنيه، وقد يجمع بين الأحاديث وبين الروايتين عن مالك بأن يكون بمقابلة أعلى صدره، وكفاه حذو منكبيه، وأطراف أصابعهما مع أذنيه، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا، ونحوه للشافعي إلا ذكر الصدر وهو صفة ما جاء في الحديث. وتجتمع الأحاديث إلا في زيادة الرواية الأخرى: "فوق رأسه".

                                                وقال بعضهم: هو على التوسعة، وقال أبو عمر : هذه الروايات كلها مشهورة دالة على التوسعة، ويقال: يرفعها إلى أن يجاوز رأسه، وهو المنقول عن طاوس أيضا.

                                                وبقي الكلام ها هنا من وجوه:

                                                الأول: في نفس رفع اليدين قال ابن المنذر : لم يختلفوا أن رسول الله -عليه السلام- كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وفي "شرح المهذب": أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح ونقله ابن المنذر ، ونقل العبدري عن الزيدية : أنه لا يرفع يديه عند الإحرام، ولا يعتد بهم، وفي فتاوى القفال : أن أبا الحسن أحمد بن سيار المروزي قال: إذا لم يرفع يديه لم تصح صلاته؛ لأنها واجبة، فوجب الرفع لها، بخلاف باقي التكبيرات لا يجب الرفع؛ لأنها غير واجبة، وقال النووي : وهذا مردود بإجماع من قبله، وقال ابن حزم : رفع اليدين في أول الصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به، وقد روي ذلك عن الأوزاعي .

                                                [ ص: 500 ] الثاني: في كيفية الرفع ، فقال الطحاوي : يرفع ناشرا أصابعه مستقبلا بباطن كفيه إلى القبلة كأنه لمح ما في "الأوسط" للطبراني: من حديثه عن محمد بن حرب ، نا [ عمير] بن عمران ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا: "إذا استفتح الصلاة أحدكم، فليرفع يديه وليستقبل بباطنهما القبلة؛ فإن الله - عز وجل - أمامه ".

                                                وفي "المحيط": "ولا يفرج بين الأصابع تفريجا". وقال الماوردي : يجعل باطن كل كف إلى الأخرى.

                                                وعن سحنون : ظهورهما إلى السماء وبطونهما [إلى] الأرض.

                                                وعن القابسي : يقيمهما محنيين شيئا يسيرا.

                                                ونقل المحاملي عن أصحابهم: يستحب تفريق الأصابع.

                                                وقال الغزالي : لا يتكلف ضما ولا تفريقا، بل يتركهما على هيئتهما.

                                                وقال الرافعي : يفرق تفريقا وسطا.

                                                وفي "المغني" لابن قدامة : يستحب أن يمد أصابعه، ويضم بعضها إلى بعض.

                                                الثالث: في حكمة الرفع ، فقال ابن بطال : رفعهما تعبد، وقيل: إشارة إلى التوحيد، وقيل: حكمته أن يرى الأصم فيعلم دخوله في الصلاة، والتكبير لإسماع الأعمى فيعلم بدخوله في الصلاة.

                                                وقيل: استكانة واستسلام، وكان الأسير إذا غلب مد يديه علامة لاستسلامه.

                                                [ ص: 501 ] وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل: هو إشارة إلى طرح الدنيا وراءه.

                                                الرابع: الرفع مقارن بالتكبير، أم لا ؟ ففي "المبسوط": يرفع ثم يكبر، وقال: وعليه أكثر مشايخنا، وقال جواهر زاده : يرفع مقارنا للتكبير، وبه قال أحمد ، وهو المشهور عن مالك .

                                                وفي "شرح المهذب": الصحيح أن يكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، وهو المنصوص.

                                                وقيل: يرفع بلا تكبير، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين.

                                                وقيل: يبتدئ يرفع بلا تكبير، ثم يرسلهما بعد فراغ التكبير، وهو مصحح عند البغوي .

                                                وقيل: يبتدئ بهما معا.

                                                وقيل: التكبير مع انتهاء الإرسال.

                                                وقيل: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ولا استحباب في الانتهاء. وهذا مصحح عند الرافعي .

                                                وفي شرح "المجمع" قال أبو يوسف : يقارن رفع اليدين مع التكبير. وبه قال الطحاوي وبعض الشافعية ، وقال أبو حنيفة ومحمد : يقدم الرفع على التكبير. وهو الذي ذكره صاحب "المبسوط"؛ لأن الرفع إشارة إلى نفي الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثباتها له، والنفي يقدم على الإثبات.

                                                الخامس: رفعهما إذا أراد الركوع، وسيجيء الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية