الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1217 1218 1219 1220 1221 1222 ص: فقيل لهم: ما لكم فيما روينا عن ابن عباس حجة، وذلك أن ابن عباس قد روي عنه خلاف ذلك:

                                                حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين ، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لقد حفظت السنة غير أني لا أدري أكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر أم لا".

                                                فهذا ابن عباس قد أخبر في هذا الحديث أنه لم يتحقق عنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ فيهما وإنما أمر بترك القراءة -فيما تقدمت روايتنا له عنه- لأن رسول الله - عليه السلام - لم يكن يقرأ في ذلك، فإذا انتفى أن يكون قد تحقق ذلك عنده عن النبي - عليه السلام - انتفى ما قال من ذلك; لأن غيره قد تحقق قراءة رسول الله - عليه السلام - فيهما مما سنذكره في موضعه في هذا الباب إن شاء الله تعالى مع أنه قد روي عن ابن عباس من رأيه ما يدل على خلاف ذلك.

                                                [ ص: 11 ] حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس قال: "اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر".

                                                حدثنا علي، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن العيزار بن حريث قال: سمعت ابن عباس يقول: "لا تصلي صلاة إلا قرأت فيها ولو بفاتحة الكتاب".

                                                حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي ، وموسى بن إسماعيل ، قالا: ثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي العالية البراء ، قال: "سمعت ابن عباس أو سئل عن القراءة في الظهر والعصر فقال: هو إمامك فاقرأ منه ما قل وما كثر، وليس من القرآن شيء قليل".

                                                حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي العالية، قال: "سألت ابن عباس ... فذكر مثله قال: سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - فقال: إني لأستحي أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن أو ما تيسر".

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله-: فهذا ابن عباس قد روي عنه من رأيه أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر، وقد رأينا الإمام يحمل عن المأموم، ولم نر المأموم يحمل عن الإمام شيئا، فإذا كان المأموم يقرأ، فالأمام أحرى أن يقرأ، مع ما قد روينا عنه أيضا من أمره بالقراءة فيهما.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قيل لهؤلاء القوم المذكورين: ما لكم في ما روينا عن ابن عباس من الآثار المذكورة حجة; لأنه قد روي عنه خلاف ذلك، يعني ما يعارضه ويرده، وهو ما رواه الطحاوي عن صالح ، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم ، عن هشيم بن بشير الواسطي من رجال الجماعة، عن حصين -بضم الحاء- ابن عبد الرحمن السلمي ابن عم منصور بن المعتمر من رجال الجماعة، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

                                                [ ص: 12 ] وأخرجه أبو داود: ثنا زياد بن أبي أيوب، ثنا هشيم، أنا حصين ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لا أدري أكان رسول الله - عليه السلام - يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟ ". انتهى.

                                                فقد أخبر في هذا أنه لم يتحقق عنده عدم قراءة رسول الله - عليه السلام - في الظهر والعصر، فإذا انتفى تحقق ذلك عنده عن النبي - عليه السلام - انتفى ما قاله أيضا من ذلك القول; لأن غيره من الصحابة قد تحققوا قراءة رسول الله - عليه السلام - في الظهر والعصر، على ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.

                                                وقال الخطابي في جواب هذا: إنه وهم من ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنه قد ثبت عن النبي - عليه السلام - أن كان يقرأ في الظهر والعصر من طرق كثيرة، كحديث أبي قتادة وخباب بن الأرت وغيرهما.

                                                قلت: عندي جواب أحسن من هذا مع رعاية الأدب في حق ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو أن ابن عباس استند في هذا أولا على قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وهو مجمل بينه - عليه السلام -بفعله، ثم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والمرئي هو الأفعال دون الأقوال والصلاة اسم للفعل في حق الظهر والعصر، وللفعل والقول في حق غيرهما، ولم يبلغ ابن عباس قراءته - عليه السلام - في الظهر والعصر، فلذلك قال في جواب عبد الله بن عبيد الله: لا. فلما بلغه خبر قراءته - عليه السلام -: فيهما، وثبت عنده رجع من ذلك القول.

                                                والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن الحسن العرني ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر".

                                                [ ص: 13 ] وإسناده صحيح.

                                                قوله: "مع أنه قد روي عن ابن عباس من رأيه ما يدل على خلاف ذلك" أي على أن الشأن قد روي عن ابن عباس من رأيه واجتهاده ما يدل على خلاف ذلك القول الذي احتجت به أهل المقالة الأولى.

                                                وهو قوله: "اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر"، وقد علم أن الإمام كان يحمل عن المأموم من غير عكس فإذا كان المأموم يقرأ مع تحمل القراءة عنه غيره فبالأولى أن تجب قراءة الإمام الذي لا يحمل عنه أحد.

                                                ثم إنه أخرج ذلك عن أربع طرق صحاح برجال الثقات:

                                                الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي ، عن يزيد بن هارون الواسطي ، عن إسماعيل بن أبي خالد أبي عبد الله البجلي الكوفي ، واسم أبي خالد: هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير .

                                                عن العيراز بن حريث العبدي الكوفي .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه" : ثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن العيزار بن حريث العبدي، عن ابن عباس قال: "اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب".

                                                قوله: "اقرأ" على صورة الأمر، من قرأ يقرأ.

                                                الثاني: عن علي بن شيبة أيضا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي ، عن العيزار بن حريث ... إلى آخره.

                                                وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه": عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن العيزار بن حريث قال: سمعت ابن عباس يقول: "لا تصلين صلاة حتى تقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، ولا تدع أن تقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة".

                                                [ ص: 14 ] الثالث: عن أحمد بن داود المكي ، عن عبيد الله بن محمد بن حفص القرشي التيمي أبي عبد الرحمن البصري المعروف بأبي عائشة، وعن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما عن حماد بن سلمة ، عن أيوب السختياني ، عن أبي العالية البراء البصري قيل: اسمه زياد، وقيل: كلثوم، وقيل: أذينة، روى له الشيخان، والبراء -بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء- على وزن فعال، وكان يبري النبل فسمي بذلك.

                                                وأخرجه عبد الرزاق : عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي العالية: "سألت ابن عباس، فقال: اقرأ منه ما قل أو كثر وليس من القرآن قليل".

                                                قوله: "هو إمامك" أي القراءة أمامك، وذكر الضمير باعتبار القرآن.

                                                قوله: "وليس من القرآن شيء قليل" أراد أن كله في القدر سواء، ولا يوصف جزء من القرآن بالقلة; لأنها تنبئ عن الحقارة.

                                                الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن يزيد بن هارون الواسطي ، عن سعيد بن أبي عروبة مهران ، عن أبي العالية البراء .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي العالية البراء قال: "قلت لابن عمر: أفي كل ركعة أقرأ؟ فقال: إني لأستحي من رب هذا البيت أن لا أقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وما تيسر. وسألت ابن عباس فقال: هو إمامك، فإن شئت فأقل منه، وإن شئت فأكثر".




                                                الخدمات العلمية