الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1272 1273 1274 1275 ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال: ثنا شعبة ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال: " صلى معاذ - رضي الله عنه - بأصحابه المغرب، فافتتح بسورة البقرة أو النساء، فصلى رجل ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي - عليه السلام -، فذكر ذلك له، فقال رسول الله - عليه السلام -: أفاتن أنت يا معاذ؟! ؟ - قالها مرتين- لو قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها; فإنه يصلي خلفك ذو الحاجة والضعيف والصغير والكبير". .

                                                حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: أنا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن محارب بن دثار ، عن جابر ، عن النبي - عليه السلام - نحوه.

                                                [ ص: 67 ] حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة ، عن عمرو بن دينار، قال: "هي العتمة".

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر، قال: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - عليه السلام - ثم يرجع فيؤمنا، فأخر رسول الله - عليه السلام - العشاء ذات ليلة، فصلى معه معاذ ثم جاء ليؤمنا، فافتتح سورة البقرة، فلما رأى ذلك رجل من القوم تنحى ناحية فصلى وحده، فقلنا: ما لك يا فلان أنافقت؟ فقال: ما نافقت ولآتين رسول الله - عليه السلام - فلأخبرنه، فأتى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا، وإنك أخرت العشاء البارحة وصلى معك، ثم جاء فتقدم ليؤم معنا، فافتتح بسورة البقرة فلما رأيت ذلك تنحيت فصليت وحدي أي رسول الله، إنما نحن أصحاب نواضح، إنما نعمل بأجرائنا، فقال رسول الله - عليه السلام -: أفتان أنت يا معاذ -مرتين- اقرأ بسورة كذا، اقرأ بسورة كذا، اقرأ بسور قصار من المفصل -لا أجدها- فقلنا لعمرو: : إن أبا الزبير حدثنا، عن جابر، أن رسول الله - عليه السلام - قال له: اقرأ بسورة والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، فقال عمرو بن دينار: ، هو نحو هذا".

                                                قالوا: فقد أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قراءته بهم سورة البقرة، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ ؟ وأمره بالسور التي ذكرناها من المفصل، فإن كانت تلك الصلاة هي صلاة المغرب فقد ضاد هذا الحديث حديث زيد بن ثابت وما ذكرناه معه في أول هذا الباب، وإن كانت هي صلاة العشاء الآخرة فكره رسول الله - عليه السلام - أن يقرأ فيها بما ذكرنا مع سعة وقتها; فإن صلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى أن تكون تلك القراءة فيها مكروهة.

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر حديث معاذ - رضي الله عنه - من ثلاث وجوه تأكيدا لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من استحباب تخفيف القراءة في صلاة المغرب، ألا ترى أنه - عليه السلام - أنكر على [ ص: 68 ] معاذ قراءة سورة البقرة في صلاته معهم، ونسبه إلى الفتنة وتنفير الناس عن الجماعة، وأمره بأن يقرأ بالسور القصيرة من سور المفصل، وهو معنى قوله: "قالوا: فقد أنكر"، أي قال أهل المقالة الثانية ... إلى آخره.

                                                قوله: "فإن كانت تلك الصلاة" أي الصلاة التي صلاها معاذ معهم وقرأ فيها بسورة البقرة هي صلاة المغرب، فقد ضاد هذا الحديث حديث زيد بن ثابت وحديث جبير بن مطعم وحديث أم الفضل ونحوها مما يشابهها; لأن أحاديث هؤلاء تقتضي أن يكون المستحب قراءة السور الطويلة نحو السور التي ذكرت في أحاديثهم، وهذا الحديث يقتضي كراهة ذلك، فبينهما تضاد، هذا الذي ذكره.

                                                وفيه نظر; لأن أحاديث هؤلاء إذا كانت محمولة على بيان امتداد وقت المغرب من غروب الشمس إلى غروب الشفق الأبيض أو الأحمر على الاختلاف أو على حسب من وراءه الراغبين لذلك، وهذا الحديث إذا كان محمولا على ضيق الوقت إن كانت الصلاة مغربا وعلى حسب من وراءه من أصحاب الأعذار والحاجات، وإذا كانت الصلاة عشاء، فلا تضاد ولا تنافي فافهم.

                                                قوله: "وإن كانت هي صلاة العشاء" أي وإن كانت الصلاة التي صلاها معاذ هي صلاة العشاء الآخرة، فقد كره - عليه السلام - أن يقرأ بنحو سورة البقرة مع سعة وقت العشاء، فإذا كان كذلك ففي صلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى وأولى أن تكون القراءة الطويلة مكروهة.

                                                فإن قيل: قد صرح في الحديث أن تلك الصلاة كانت صلاة العشاء فمن أين هذا الترديد؟

                                                قلت: كما صرح بأنها صلاة العشاء في حديث عمرو بن دينار عن جابر، فكذلك صرح في حديث محارب بن دثار عن جابر بأنها صلاة المغرب، ولكن عمرو بن دينار المكي صرح في روايته أنها صلاة العشاء حيث أخرج الطحاوي ذلك عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن شعبة ، عن عمرو بن دينار قال: "هي العتمة" انتهى، أي: العشاء.

                                                [ ص: 69 ] فإن قيل: قد روى أحمد في "مسنده" : ثنا سفيان ، عن عمرو، سمعه من جابر: "كان معاذ يصلي مع رسول الله - عليه السلام - ثم يرجع فيؤمنا- وقال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه -فأخر النبي - عليه السلام - قال مرة: الصلاة، وقال مرة: العشاء- فصلى معاذ مع النبي - عليه السلام - ثم جاء قومه فقرأ البقرة، فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل: نافقت يا فلان؟ قال: ما نافقت، فأتى النبي - عليه السلام -، فقال: إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله، إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة، فقال: يا معاذ، أفتان أنت؟! اقرأ بكذا وكذا قال أبو الزبير: بسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، فذكرنا لعمرو فقال: أراه قد ذكره".

                                                وأخرجه أبو داود في "سننه" : عن أحمد بن حنبل .

                                                وهذا عمرو بن دينار يقول فيه بالترديد حيث قال: "فأخر النبي - عليه السلام - قال مرة: الصلاة، وقال مرة: العشاء".

                                                وقوله: "الصلاة" أعم من أن تكون مغربا أو عشاء.

                                                قلت: الترديد في اللفظ فقط، ولا ترديد في المعنى، فإن مراده من قوله: "الصلاة" هو العشاء الآخرة; وذلك لأن تأخير المغرب مكروه، ولم ينقل أنه - عليه السلام - أخرها، وها هنا قد أراد بقوله: "فأخر الصلاة" أي العشاء; فافهم.

                                                أما الوجه الأول: فقد أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن شعبة ، عن محارب بن دثار ، عن جابر قال: "صلى معاذ ... إلى آخره.

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                ومحارب بن دثار بن كردوس السدوسي أبو كردوس الكوفي قاضيها.

                                                [ ص: 70 ] وأخرجه البخاري : ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا محارب بن دثار، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "أقبل رجل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي - عليه السلام - فشكا إليه معاذا، فقال النبي - عليه السلام -: يا معاذ أفتان أنت -أو أفاتن ثلاث مرار- فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة".

                                                الثاني: عن روح بن الفرج ، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري ، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي ، عن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي والد سفيان الثوري ، عن محارب بن دثار ، عن جابر .

                                                وأخرجه البزار في "مسنده" من وجوه، وفي أحدها: ثنا إبراهيم بن بشار، نا داود بن عمرو، نا أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن محارب بن دثار ، عن جابر .

                                                وفي أحدها: عن شعبة ، عن محارب ثم قال: واللفظ لفظ حديث شعبة، قال: "أقبل رجل من الأنصار معه ناضحان له، ومعاذ يصلي المغرب، فدخل معه في الصلاة، فاستفتح معاذ بالبقرة أو النساء -محارب الذي يشك- فلما رأى الرجل ذلك صلى ثم خرج، فبلغ الرجل أن معاذا ينال منه، فذكر ذلك للنبي - عليه السلام -، فقال: أفتان يا معاذ، أفتان يا معاذ -أو فاتن فاتن فاتن- فلولا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما; يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة -أحسب محاربا الذي يشك في الضعيف-".

                                                [ ص: 71 ] الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ أبي داود ، عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن دينار المكي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : حدثني [محمد] بن عباد، قال: ثنا سفيان ، عن عمرو ، عن جابر قال: "كان معاذ يصلي مع النبي - عليه السلام - ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي - عليه السلام - العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: نافقت يا فلان، قال: لا والله ولآتين رسول الله - عليه السلام - فلأخبرنه فأتى رسول الله - عليه السلام - فقال: يا رسول الله، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذا صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - عليه السلام - على معاذ فقال: يا معاذ، أفتان أنت؟! اقرأ بكذا وكذا".

                                                قال سفيان: قلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: "اقرأ والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى" فقال عمرو نحو هذا.


                                                قوله: "فصلى رجل" قيل: هو حزم بن أبي كعب، وقيل: حرام بن ملحان، وقيل: حازم، وقيل: سليم .

                                                قوله: "فبلغ ذلك معاذا"، أي بلغ انصراف الرجل المذكور عن صلاة معاذ وصلاته وحده.

                                                قوله: "فبلغ ذلك الرجل" أي فبلغ قول معاذ: "إنه منافق" الرجل المذكور.

                                                قوله: "فأتى النبي - عليه السلام -" أي فأتى الرجل المذكور النبي - عليه السلام - "فذكر ذلك" أي ما قاله معاذ في حقه.

                                                [ ص: 72 ] قوله: "أفاتن" أي أمنفر عن الدين وصاد عنه، والهمزة للاستفهام على سبيل الإنكار، وهذا زجر له عن تطويله الصلاة على ذوي الحاجات والضعفاء.

                                                قوله: "قالها مرتين" أي قال- عليه السلام - تلك الكلمة مرتين، أراد أنه قال: أفاتن أنت يا معاذ، أفاتن أنت يا معاذ .

                                                قوله: "لو قرأت بسبح اسم ربك الأعلى ... " إلى آخره، جواب "لو" محذوف، أي لو قرأت بهذه السورة كانت تكفي أو تجزئ أو نحو ذلك.

                                                قوله: "فإنه يصلي" الفاء للتعليل، والضمير للشأن.

                                                قوله: "أقبل رجل بناضحين" الرجل هو الذي ذكرناه، والناضح هو البعير الذي يستقى عليه، والأنثى: ناضحة، والجمع: نواضح، سميت بذلك لنضحها الماء باستقائها، والنضح: الرش.

                                                قوله: "وقد جنح الليل" الواو للحال، يقال: جنح الليل إذا قبل والشمس تغيب.

                                                قوله: "نال منه" أي أصاب منه، أراد: تكلم في حقه بما يسوؤه.

                                                قوله: "تنحى ناحية" أي تجنب الناس وصار في ناحية وحده.

                                                قوله: "أنافقت" الهمزة فيه للاستفهام.

                                                قوله: "أي رسول الله" أي: يا رسول الله وقد علم أن حروف النداء ثمانية، وهي "يا"، و"أيا"، و"هيا"، و"أي" و"الهمزة"، و"وا"، و"آ"، و"آي". و"يا " هي أم الباب; لأنها ينادى بها البعيد والقريب والمندوب وغيره و"أيا" مثل "يا" إلا أنها لا تستعمل إلا والمنادى مذكور و"هيا" مثل "أيا"; لأن هاءها مبدلة من الهمزة و"أي" بفتح الهمزة وسكون الياء بوزن "كي"، و"الهمزة" نحو: أزيد أقبل، فهذه الخمسة حروف النداء عند البصريين، وزاد الكوفيون "آ"، و"آي" تقول: آزيد، وآي زيد، وأما "وا" فتستعمل في الندبة، وهي: نداء المتفجع عليه، أو المتوجع منه، نحو: وازيداه، واظهراه.

                                                [ ص: 73 ] قوله: "أصحاب نواضح" أي: أصحاب عمل وتعب.

                                                قوله: "بأجرائنا" جمع أجير.

                                                قوله: "من المفصل" وهو السبع السابع من القرآن، سمي به لكثرة فصوله، وقد مر مرة.

                                                قوله "فقلنا لعمرو" القائل هو سفيان الثوري ، وعمرو هو ابن دينار المكي ، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي .

                                                ويستفاد من هذه الأحاديث:

                                                استحباب تخفيف القراءة في صلاة المغرب، وكراهية تطويلها، ولا سيما في حق الإمام الذي يصلي وراءه قوم ضعفاء أو كسالى، أو يكون إمام مسجد شارع، وفي مثل هذا يكره في سائر الصلوات.

                                                وجواز قول من يقول سورة البقرة وسورة النساء وسورة المائدة ونحوها، ومنعه بعض السلف وزعم أنه لا يقال إلا: السورة التي تذكر فيها البقرة ونحوها، والحديث الصحيح حجة عليه.

                                                ووجوب الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه وإن كان مكروها غير محرم.

                                                وجواز الاكتفاء بالكلام في التعزير.

                                                والأمر بتخفيف الصلاة والتعزير على إطالتها إذا لم ترض الجماعة.

                                                وفيه جواز إمامة المتنفل بالمفترض وهو الذي تعلق به الشافعي، وسيجيء الجواب عن ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية