الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1578 [ ص: 474 ] ص: فكل هؤلاء قد روى عن النبي - عليه السلام - في التشهد ما ذكرنا عنهم، وخالف ما روي عن عمر- رضي الله عنه -، فقد تواترت بذلك عن النبي - عليه السلام - الروايات فلم يخالفها شيء، ولا ينبغي خلافها، ولا الأخذ بغيرها، ولا الزيادة على شيء مما فيها، إلا أن في حديث ابن عباس حرفا يزيد على غيره، وهو: "المباركات"، فقال قائلون: هو أولى من حديث غيره إذ كان قد زاد عليه، والزائد أولى من الناقص.

                                                وقال آخرون: بل حديث ابن مسعود 5 وأبي موسى 5 وابن عمر الذي رواه عنه مجاهد وابن بابى أولى; لاستقامة طرقهم، واتفاقهم على ذلك; لأن أبا الزبير لا يكافئ الأعمش ، ولا منصورا ، ولا مغيرة، ولا أشباههم ممن روى حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولا يكافئ قتادة في حديث أبي موسى، ولا يكافئ أبا بشر في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما -.

                                                ولو وجب الأخذ بما زاد وإن كان دونهم لوجب الأخذ بما زاد أيمن بن نابل على الليث عن أبي الزبير; ، فإنه قد قال في التشهد: " بسم الله"، ولوجب الأخذ بما زاد أبو أسلم عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - فإنه قال في التشهد أيضا: "بسم الله" وزاد أيضا ما في ذلك من الزيادة على حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

                                                فلما كانت هذه الزيادة غير مقبولة; لأنه لم يزدها على الليث مثله، لم تقبل زيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - على عطاء بن أبي رباح; ؛ لأن ابن جريج رواه عن عطاء ، عن ابن عباس موقوفا، ورواه أبو الزبير عن سعيد بن جبير ، وطاوس عن ابن عباس مرفوعا، ولو ثبتت هذه الأحاديث كلها وتكافأت في أسانيدها لكان حديث عبد الله أولاها; لأنهم قد أجمعوا أنه ليس للرجل أن يتشهد بما شاء من التشهد غير ما روي في ذلك، فلما ثبت أن التشهد الخاص من الذكر، وكان ما رواه عبد الله قد وافقه عليه كل من رواه عن النبي - عليه السلام - غيره، وزاد غيره عليه ما ليس في تشهده، ، كان ما قد أجمع عليه من ذلك أولى أن يتشهد به دون الذي اختلف فيه.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهؤلاء إلى: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ، وأبي موسى الأشعري [ ص: 475 ] وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم -; فإنهم كلهم رووا عن النبي - عليه السلام - في التشهد ما يخالف تشهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ما مرت رواياتهم مفصلة، وكذا روي عن معاوية وسلمان وعائشة - رضي الله عنهم -، ما يوافق ما روى هؤلاء الصحابة.

                                                فحديث معاوية عند الطبراني : عن إسماعيل بن عياش ، عن حريز بن عثمان ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان: "أنه كان يعلم الناس التشهد وهو على المنبر عن النبي - عليه السلام -: التحيات لله، والصلوات والطيبات ... " إلى آخره، نحو تشهد ابن مسعود .

                                                وحديث سلمان عند البزار ، والطبراني أيضا كلاهما: عن سلمة بن الصلت ، عن عمرو بن يزيد الأزدي ، عن أبي راشد قال: "سألت سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن التشهد فقال: أعلمكم كما علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التحيات لله والصلوات والطيبات ... " إلى آخره نحوه.

                                                وحديث عائشة - رضي الله عنها - عند البيهقي : عن القاسم، عنها قالت: "هذا تشهد النبي - عليه السلام -: التحيات لله ... " إلى آخره نحوه.

                                                قال النووي في "الخلاصة": سنده جيد.

                                                قوله: "فقد تواترت بذلك عن النبي - عليه السلام - الروايات" أي قد تكاثرت وتتابعت بما روي من غير عمر مخالفا لما روي عن عمر - رضي الله عنه -، فلا ينبغي مخالفة هذه الروايات، ولا الأخذ بغيرها، ولا الزيادة على شيء مما ذكر فيها من الألفاظ والكلمات.

                                                والحاصل أنه قد أشار أولا إلى ترجيح الروايات المخالفة لحديث عمر- رضي الله عنه - بكثرة ورودها وتتابع تخريجها، ثم أشار إلى ترجيح رواية ابن مسعود من بين هذه الروايات، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.

                                                [ ص: 476 ] قوله: "إلا أن في حديث ابن عباس حرفا ... إلى آخره" استثناء من قوله: "ولا الزيادة على شيء مما فيها"، والمعنى لكن فيما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - في التشهد حرف يزيد على ما في رواية غيره، وهو لفظ: "المباركات"، على ما مر في روايته: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات" وقد اختلفوا في الأخذ بهذه الزيادة، أشار إليه بقوله: "فقال قائلون: هو أولى من حديث غيره" أي الأخذ بحديث ابن عباس هو أولى من غيره، وعلل ذلك بقوله: "إذا كان قد زاد عليه" أي لأنه كان، أي ابن عباس - رضي الله عنهما - قد زاد على حديث غيره، والزائد أولى من الناقص.

                                                وأراد بهؤلاء القائلين: الشافعي وأصحابه; فإنهم ذهبوا إلى تشهد ابن عباس، وعللوا بالتعليل المذكور.

                                                قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وأحمد وأبا ثور وإسحاق وجماهير الفقهاء من التابعين وغيرهم ممن بعدهم; فإنهم قالوا: بل حديث ابن مسعود ، وأبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، وعبد الله بن عمر الذي رواه عنه -أي عن ابن عمر- مجاهد بن جبر المكي وعبد الله بن بابى المكي أولى، ثم بين وجه الأولوية بقوله: "لاستقامة طرقهم أي طرق أحاديث الرواة من هؤلاء، واتفاقهم على ذلك"، وإنما قيد في رواية ابن عمر بقوله: "الذي رواه عنه مجاهد وابن بابى" احترازا عن روايته التي فيها نافع عنه، وقد مرت في أول الباب.

                                                قوله: "ولأن أبا الزبير ... إلى آخره" إشارة إلى بيان تعليل قوله: "لاستقامة طرقهم واتفاقهم على ذلك" بيان ذلك أن الراوي حديث ابن عباس هو محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي، كما مر بيانه فيما مضى، فأبو الزبير هذا لا يكافئ أي لا يساوي ولا يعادل سليمان الأعمش، ولا منصور بن المعتمر، ولا مغيرة بن مقسم الضبي ولا أشباههم كأبي عوانة الوضاح اليشكري والأسود بن يزيد النخعي وشقيق بن سلمة وهشام الدستوائي وغيرهم، الذين رووا حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، فإن هؤلاء ممن احتج بهم الشيخان وغيرهم، ووقع الاتفاق من [ ص: 477 ] المحدثين كلهم على عدالتهم وثقتهم، ألا ترى أن البخاري لم يرو لأبي الزبير إلا مقرونا بغيره وإن كان هو من رجال مسلم! ولكنه لا يعادل هؤلاء المذكورين.

                                                وقد قال الشافعي: أبو الزبير يحتاج إلى دعامة. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

                                                قوله: "ولا يكافئ قتادة" أي لا يكافئ أبو الزبير المذكور قتادة بن دعامة السدوسي في حديث أبي موسى الأشعري، وقد مر أن قتادة روى حديثه عن يونس بن جبير ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن أبي موسى الأشعري .

                                                قوله: "ولا يكافئ" أي أبو الزبير أبا بشر جعفر بن إياس اليشكري في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وقد مر أن أبا بشر روى حديثه عن مجاهد ، عن ابن عمر وذلك أن أبا بشر مجمع عليه في عدالته وثقته، وأخرج له الشيخان وغيرهما.

                                                قوله: "ولو وجب الأخذ بما زاد ... إلى آخره" جواب عما قالوا من قولهم: "والزائد أولى" بيان ذلك: أنه لو وجب الأخذ بالزيادة وإن كانت هي ممن دون من لم يزد من الرواة لوجب الأخذ بزيادة أيمن بن نابل على الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي; فإنه قال في روايته: حدثنا محمد بن مسلم أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله ... " ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود، فإذا أخذوا بزيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس لفظة: "المباركات" الذي رواه الليث بن سعد ، عن أبي الزبير، لزمهم أن يأخذوا بزيادة أيمن بن نابل في حديث جابر بن عبد الله الذي رواه أيمن بن نابل عن أبي الزبير ، عن جابر .

                                                بيان الملازمة: أن أبا الزبير أدنى حالا من الليث، فإذا أخذتم من أبي الزبير زيادته في حديث الليث عنه، عن سعيد بن جبير وطاوس ، عن ابن عباس والحال أنه أدنى من الليث، يجب الأخذ أيضا بزيادة أيمن بن نابل في حديث أبي الزبير عن [ ص: 478 ] جابر، وكذلك يجب الأخذ بزيادة أبي أسلم المؤذن ، عن عبد الله بن الزبير أنه قال في التشهد أيضا: "بسم الله" وألفاظا أخرى ليست في حديث ابن مسعود .

                                                قوله: "فلما كانت هذه الزيادة ... إلى آخره" من تتمة الجواب المذكور، أي فلما كانت زيادة أيمن بن نابل غير مقبولة; لأنه لم يزدها على الليث مثله، أي مثل الليث في درجة العدالة والأمانة والثقة، لم تقبل كذلك زيادة أبي الزبير في حديث ابن عباس على عطاء بن أبي رباح; لأن عبد الملك بن جريج رواه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا، ورواه أبو الزبير محمد بن مسلم ، عن سعيد بن جبير وطاوس ، عن ابن عباس مرفوعا; لأن من رفع فقد زاد على من وقف، وأبو الزبير لا يكافئ ابن جريج، فافهم. قوله: "ولو ثبتت هذه الأحاديث كلها ... إلى آخره" جواب بطريق التسليم، بيانه: لو سلمنا أن الأحاديث المذكورة كلها لو ثبتت وصحت وتساوت في قوة الأسانيد، وصحة الطريق واستقامة المجيء لكان حديث عبد الله بن مسعود أولاها، ثم أشار إلى بيان الأولوية بقوله: "لأنهم قد أجمعوا ... " إلى آخره، وهو ظاهر.

                                                قلت: لم يقل أحد من أهل العلم بالحديث: إن حديث ابن مسعود يساويه حديث أو يفوقه.

                                                ومن ذلك قال الخطابي -رحمه الله-: أصح الروايات وأشهرها رجالا: تشهد ابن مسعود .

                                                وقال ابن المنذر وأبو علي الطوسي: قد روي حديث ابن مسعود من غير وجه، وهو أصح حديث روي في التشهد عن النبي - عليه السلام -.

                                                وقال البزار: أصح حديث في التشهد: حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وروي عنه من نيف وعشرين طريقا، ولا أعلم يروى عن النبي - عليه السلام - في التشهد أثبت من حديث عبد الله، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر حالا، ولا أشد تظاهرا بكثرة الأسانيد واختلاف طرقها وإليه أذهب.

                                                [ ص: 479 ] وقال أبو عمر: بتشهد ابن مسعود أخذ أكثر أهل العلم; لثبوت فعله عن النبي - عليه السلام -.

                                                وقال علي بن المديني: لم يصح في التشهد إلا ما نقله أهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى .

                                                وبنحوه قال ابن طاهر .

                                                وقال النووي: أشدها صحة باتفاق المحدثين: حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس .

                                                قلت: لأجل ذلك قال صاحب "الهداية": والأخذ بتشهد ابن مسعود أولى; لأن فيه الأمر، وأقله الاستحباب، و"الألف" و"اللام" وهما للاستغراق، وزيادة "الواو" وهي لتحديد الكلام كما في القسم، وتأكيد التعليم.

                                                قلت: أما الأمر وهو قوله: "فليقل" وليس في تشهد ابن عباس في ألفاظهم الجميع إلا في لفظ النسائي: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا" وفي لفظ له: "قولوا في كل جلسة".

                                                وأما "الألف" و"اللام" فإن مسلما وأبا داود وابن ماجه لم يذكروا تشهد ابن عباس إلا معرفا بالألف واللام، وذكره الترمذي والنسائي منكرا: "سلام عليك أيها النبي، سلام علينا" وكان برهان الذي اعتمد على هذه الرواية.

                                                وأما "الواو" فليست في تشهد ابن عباس عند الجميع.

                                                وأما التعليم فهو أيضا في تشهد ابن عباس عند الجميع: "كان رسول الله - عليه السلام - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" هكذا لفظ مسلم، وفي لفظ الباقين: "كما يعلمنا القرآن".

                                                وفي تشهد ابن مسعود تراجيح أخر منها: أن الأئمة الستة اتفقوا عليه لفظا ومعنى; وذلك نادر، وتشهد ابن عباس معدود في أفراد مسلم، وأعلى درجة [ ص: 480 ] الصحيح عند الحفاظ ما اتفق عليه الشيخان ولو في أصله، فكيف إذا اتفقا على لفظه؟

                                                ومنها: إجماع العلماء على أنه أصح حديث في الباب، كما قال الترمذي: فهو أصح حديث روي عن النبي - عليه السلام - في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - عليه السلام - ومن بعدهم من التابعين.

                                                ومنها: أنه قال فيه: "علمني التشهد، كفي بين كفيه" ولم يقل ذلك في غيره; فدل على مزيد الاعتناء به.




                                                الخدمات العلمية