الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1845 1846 ص: ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر، فرأينا الأصل أن الإمام إذا صلى برجل واحد أقامه عن يمينه، وبذلك جاءت السنة عن رسول الله - عليه السلام - في حديث

                                                [ ص: 192 ] أنس، وفيما حدثنا بكر بن إدريس ، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: " أتيت النبي - عليه السلام - وهو يصلي، فقمت عن يساره، فأخلفني فجعلني عن يمينه". .

                                                فهذا مقام الواحد مع الإمام، وكان إذا صلى بثلاثة أقامهم خلفه، هذا لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلافهم في الاثنين، فقال بعضهم: يقيمهما حيث يقيم الواحد. وقال بعضهم: يقيمهما حيث يقيم الثلاثة، فأردنا أن ننظر في ذلك لنعلم هل حكم الاثنين في ذلك كحكم الثلاثة أو حكم الواحد؟

                                                فرأينا رسول الله - عليه السلام - قد قال: " الاثنان فما فوقهما جماعة".

                                                حدثنا بذلك أحمد بن داود ، قال: ثنا عبيد الله بن محمد التيمي وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا الربيع بن بدر ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي - عليه السلام - بذلك.

                                                فجعلهما رسول الله - عليه السلام - جماعة، فصار حكمهما كحكم ما هو أكثر منهما لا حكم ما هو أقل منهما.

                                                ورأينا الله -عز وجل- قد فرض للأخ أو للأخت من قبل الأم السدس، وفرض للجميع الثلث وكذلك فرض للاثنين، وجعل للأخت من الأب والأم النصف، وللاثنتين الثلثين، وكذلك أجمعوا أنه يكون للثلاث، وأجمعوا أن للابنة النصف وأن للبنات الثلثين، وقال أكثرهم -وابن مسعود فيهم-:

                                                إن للاثنتين أيضا الثلثين.

                                                فكذلك هو في النظر; لأن البنت لما كانت في ميراثها من أبيها كالأخت في ميراثها من أخيها كان البنتان أيضا في ميراثهما من أبيهما كالأختين في ميراثهما من أخيهما; فكان حكم الاثنين فيما وصفنا حكم الجماعة لا حكم الواحد.

                                                فالنظر على ذلك أن يكونا في مقامهما مع الإمام في الصلاة مقام الجماعة لا مقام الواحد، فثبت بذلك ما روىجابر 5 وأنس، ، وفعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله.

                                                [ ص: 193 ] غير أن أبا يوسف قال: الإمام بالخيار، إن شاء فعل كما روى ابن مسعود، وإن شاء فعل كما روى أنس وجابر. وقول أبي حنيفة ، ومحمد في هذا أحب إلينا، والله أعلم.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي ثم طلبنا حكم الاثنين من طريق القياس هل له حكم الثلاثة أم حكم الواحد؟ فوجدنا الأصل في ذلك أن الإمام إذا كان وراءه واحد فإنه يقيمه عن يمينه كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

                                                أخرجه بإسناد صحيح، عن بكر بن إدريس بن الحجاج ، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري ، عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه الجماعة مطولا ومختصرا، فقال البخاري : ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة ، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: "بت في بيت خالتي ميمونة، فصلى رسول الله - عليه السلام - العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، فجئت فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه ... " الحديث.

                                                وقال مسلم : حدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع، قالا: نا وهب بن جرير، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت قيس بن سعد يحدث، عن عطاء ، عن ابن عباس قال: "بعثني العباس إلى النبي - عليه السلام - وهو في بيت ميمونة، فبت معه تلك الليلة، فقام يصلي من الليل، فقمت عن يساره فتناولني من خلف ظهره فجعلني عن يمينه".

                                                وقال أبو داود : حدثنا ابن المثنى، نا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ... إلى آخره نحو رواية البخاري .

                                                [ ص: 194 ] وقال الترمذي : نا قتيبة، قال: نا داود بن عبد الرحمن العطار ، عن عمرو بن دينار ، عن كريب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال: "صليت مع النبي - عليه السلام - ذات ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله - عليه السلام - برأسي من ورائي، فجعلني على يمينه".

                                                وقال النسائي : أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله - عليه السلام - يصلي من الليل، فقمت عن شماله، فقال بي هكذا، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه".

                                                وقال ابن ماجه : ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، نا عبد الواحد بن زياد بن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - عليه السلام - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي، فأقامني عن يمينه".

                                                قوله: "هذا لا خلاف فيه بين العلماء" أشار به إلى قوله: "وكان إذا صلى بثلاثة أقامهم خلفه"; لأن هذا مما لا يختلف فيه أحد من العلماء، "وإنما اختلافهم في الاثنين" أي في حكم الاثنين، هل هو كحكم الواحد أم كحكم الجماعة؟

                                                "فقال بعضهم" وأراد بهم: أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود، وغيرهما: "يقيمهما" أي يقيم الإمام الاثنين "حيث يقيم الواحد" يعني واحدا عن يمينه، والآخر عن شماله.

                                                "وقال بعضهم" وأراد بهم جمهور العلماء والأئمة الأربعة وأصحابهم "يقيمهما" أي الاثنين "حيث يقيم الثلاثة" يعني يتقدم الإمام عليهما كما يتقدم على الثلاثة فما فوقها، فصار الخلاف في هذا الفعل، فننظر فيه، هل حكمه حكم الواحد أو حكم الجمع؟

                                                [ ص: 195 ] فرأينا دلائل تدل على أن حكم الاثنين في غير صورة النزاع حكم الجمع لا حكم الواحد:

                                                منها: قوله - عليه السلام -: "الاثنان فما فوقهما جماعة".

                                                أخرجه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضا، عن عبيد الله -بالتصغير- ابن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله التيمي أبي عبد الرحمن البصري المعروف بابن عائشة شيخ أبي داود وأحمد، ثقة صدوق.

                                                وعن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما يرويان عن الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد التيمي السعدي الأعرجي أبي العلاء البصري المعروف بعليله، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: ليس بشيء. وعنه: ضعيف. وقال أبو داود: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: لا يشتغل بروايته فإنه ضعيف الحديث، ذاهب الحديث.

                                                عن أبيه بدر بن عمرو بن جراد الكوفي، قال في "الميزان": فيه جهالة، ما روى عنه غير ولده.

                                                عن جده عمرو بن جراد التيمي السعدي .

                                                عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس .

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا هشام بن عمار، نا الربيع بن بدر ، عن أبيه، عن جده عمرو بن جراد ، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "اثنان فما فوقهما جماعة".

                                                فجعلهما -أي الاثنين- رسول الله - عليه السلام - جماعة فصار حكمهما كحكم ما هو أكثر منهما لا حكم ما هو أقل منهما، ومثل هذا القول حجة من اللغوي فكيف من النبي - عليه السلام -؟!

                                                [ ص: 196 ] ومن الدلائل:

                                                ما أشار إليه بقوله: "ورأينا الله -عز وجل- قد فرض للأخ ... " إلى آخره، بيانه: أن الله تعالى قد فرض للأخ من الأم أو للأخت من الأم السدس; وذلك قوله تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس أي وله أخ لأم أو أخت لأم، وبذلك قرئت، وفرض للثلاثة منهم الثلث; وذلك لقوله تعالى: ( فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث وكذلك فرض للاثنين منهم الثلث فجعل الأخوين من الأم أو الأختين من الأم مثل الثلاثة منهم.

                                                ومنها: ما أشار إليه بقوله: "وجعل للأخت من الأب والأم النصف" بيانه: أن الله تعالى فرض للأخت الواحدة من الأب والأم النصف، وللأختين من الأب والأم الثلثين، وكذلك للثلاث فما فوقه، فقد سوى الله تعالى هنا أيضا بين الاثنين والجمع، وجعل حكمهما واحدا، وهذا لا خلاف فيه، ومنها ما أشار إليه بقوله: "وأجمعوا أن للابنة النصف" بيانه: أن الله تعالى فرض للبنت الواحدة النصف; لقوله تعالى: وإن كانت واحدة فلها النصف فهذا مجمع عليه للنص، وكذلك أجمعوا أن للبنات الثلثين; لقوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ثم قال أكثر العلماء من التابعين وغيرهم ومن الصحابة عبد الله بن مسعود: إن للاثنتين أيضا الثلثين كالجمع منهن، وذهب آخرون منهم ومن الصحابة عبد الله بن عباس أن للاثنتين النصف كالواحدة.

                                                ومنها غير ما ذكره الطحاوي: أن بالاثنين غير الإمام تنعقد صلاة الجمعة عند أبي يوسف .

                                                ومنها: أن حكم المرأتين في النصف كحكم النساء عنده.

                                                ومنها: أن الاثنين كالثلاث عنده في سد الطريق الكبير الذي بين الإمام والقوم.

                                                [ ص: 197 ] ومنها: قوله تعالى: فقد صغت قلوبكما المراد قلباكما; إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

                                                فإذا دلت هذه الأحكام على أن حكم الاثنين حكم الجماعة لا حكم الواحدة في هذه الصور، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون حكم الاثنين في مقامهما مع الإمام في الصلاة كحكم الجماعة لا حكم الواحد.

                                                والأكثرون من الصحابة والفقهاء وأئمة اللغة على أن أقل الجمع ثلاثة حتى لو حلف لا يتزوج نساء لا يحنث بتزوج امرأتين; وذلك لإجماع أهل اللغة العربية على اختلاف صيغ الواحد والاثنين والجمع في غير ضمير المتكلم مثل: رجل، رجلان، رجال، وهو فعل، وهما فعلا، وهم فعلوا، وأيضا يصح نفي الجمع عن الاثنين مثل: ما في الدار رجال بل رجلان.

                                                وقد أجابوا عن الحديث بأنه لما دل الإجماع على أن أقل الجمع ثلاثة وجب تأويل الحديث، وذلك بأن يحمل على أن للاثنين حكم الجمع في المواريث استحقاقا وحجبا، أو في حكم الاصطفاف خلف الإمام وتقدم الإمام عليهما، أو في حكم إباحة السفر لهما وارتفاع ما كان منهيا عنه في أول الإسلام من مسافرة واحد واثنين بناء على غلبة الكفار، أو في انعقاد صفة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة; وذلك لأن الغالب من حال النبي - عليه السلام - تعريف الأحكام دون اللغات.

                                                وعن الآيات بأن فيها إطلاق الجمع على الاثنين مجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض، أو تشبيه الواحد بالكثير في العظم والخطر كما يطلق الجمع على الواحد تعظيما في مثل قوله تعالى: وإنا له لحافظون

                                                قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من وجه النظر: ما روى جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وانتفى بذلك ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.




                                                الخدمات العلمية