الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1879 1880 1881 ص: ولا حجة لهم عندنا في هذه الآثار لأنه يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - صلاها كذلك لأنه لم يكن في سفر تقصر في مثله الصلاة، فصلى بكل طائفة ركعتين، ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين.

                                                وهكذا نقول نحن إذا حضروا العدو في مصر فأراد أهل ذلك المصر أن يصلوا صلاة الخوف فعلوا هكذا، يعني بعد أن تكون تلك الصلاة ظهرا أو عصرا أو عشاء، قالوا: فإن القضاء ما ذكر.

                                                قيل لهم: قد يجوز أن يكونوا قد قضوا ولم ينقل ذلك في الخبر، وقد يجيء في الأخبار مثل هذا كثير، وإن كانوا لم يقضوا فإن ذلك لا حجة لهم فيه عندنا أيضا; لأنه قد يجوز أن يكون ذلك كان من النبي - عليه السلام - والفريضة حينئذ تصلى مرتين، فيكون كل واحد منهما فريضة، وقد كان يفعل ذلك في أول الإسلام ثم نسخ.

                                                كما حدثنا حسين بن نصر ، قال: سمعت يزيد بن هارون ، قال: ثنا حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن سليمان مولى ميمونة - رضي الله عنها ، - قال: " أتيت المسجد فرأيت ابن عمر - رضي الله عنه - جالسا والناس في الصلاة، فقلت: ألا تصلي مع الناس؟ فقال: قد صليت في رحلي، إن رسول الله - عليه السلام - نهى أن تصلى فريضة في يوم مرتين". .

                                                والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون هكذا يصنعون في بدء الإسلام، يصلون في منازلهم ثم يأتون المسجد فيصلون تلك الصلاة التي أدركوها على أنها فريضة، فيكونون قد صلوا فريضة في يوم مرتين، حتى نهاهم النبي - عليه السلام - عن ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد فأدرك تلك الصلاة أن يصليها ويجعلها نافلة.

                                                وترك ابن عمر - رضي الله عنهما - الصلاة مع القوم يحتمل عندنا ضربين: يحتمل أن تكون تلك الصلاة صلاة لا يتطوع بعدها، فلم يكن يجوز أن يصليها إلا على أنها فريضة

                                                [ ص: 249 ] فقال: "نهى رسول الله - عليه السلام - أن تصلى صلاة فريضة في يوم مرتين" أي: فلا يجوز أن أصليها فريضة; لأني قد صليتها مرة، ولا أدخل معهم لأني لا يجوز لي التطوع في ذلك الوقت.

                                                ويحتمل أن يكون سمع من النبي - عليه السلام - النهي عن إعادتها على المعنى الذي نهى عنه، ثم رخص رسول الله - عليه السلام - بعد ذلك أن تصلى على أنها نافلة، فلم يسمع ذلك ابن عمر .

                                                فنظرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود حدثنا، قال: ثنا الوهبي ، قال: ثنا الماجشون ، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال: "أرسلني محرر بن أبي هريرة إلى ابن عمر أسأله: إذا صلى الرجل الظهر في بيته ثم جاء إلى المسجد والناس يصلون فصلى معهم، أيتهما صلاته؟ قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: صلاته الأولى".

                                                ففي هذا الحديث أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد رأى أن الثانية تكون تطوعا، فدل ذلك على أن تركه للصلاة في حديث سليمان إنما كان لأنها صلاة لا يجوز أن يتطوع بعدها، وإن كان حديثا أبي بكرة 5 وجابر الذين ذكرنا كانا والحكم على ما وصفنا: أن من صلى فريضة جاز أن يعيدها فتكون فريضة، فلذلك صلاها رسول الله - عليه السلام - مرتين بالطائفتين، وذلك هو جائز لو بقي الحكم على ذلك، فأما إذا نسخ ونهي أن تصلى فريضة مرتين; فقد ارتفع ذلك المعنى الذي له صلى بكل طائفة ركعتين، وبطل العمل به، فلا حجة لهم في حديث أبي بكرة 5 وجابر; لاحتمالهما ما ذكرناه.

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا حبان -يعني ابن هلال- قال: ثنا همام ، قال: ثنا قتادة ، عن عامر الأحول ، عن عمرو بن شعيب ، عن خالد بن أيمن المعافري ، قال: " كان أهل العوالي يصلون في منازلهم ويصلون مع النبي - عليه السلام -، فنهاهم النبي - عليه السلام - أن يعيدوا الصلاة في يوم مرتين. قال عمرو: : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: صدق" .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي ولا حجة لهؤلاء القوم الذين ذهبوا إلى حديثي أبي بكرة وجابر - رضي الله عنهما -، وذلك لأنه يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - صلاها كذلك -أي ركعتين ركعتين- لأنه -أي

                                                [ ص: 250 ] لأن النبي - عليه السلام - لم يكن في سفر تقصر في مثله الصلاة، يعني كان مقيما، فلذلك صلى بكل طائفة ركعتين، وهكذا هو الحكم فيما إذا حضر العدو مصرا من أمصار المسلمين وأراد أهل المصر أن يصلوا صلاة الخوف، فلهم أن يصلوا كذلك إذا صلوا صلاة رباعية.

                                                قوله: "قالوا: فإن القضاء ما ذكر" سؤال من جهة هؤلاء القوم، تقريره أن يقال: كيف قلتم: إنه يحتمل أن يكون مقيما وصلى بكل طائفة ركعتين ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين، والحال أن القضاء ما ذكر في الحديث؟

                                                وتقرير الجواب ما أشار إليه بقوله: قيل لهم -أي لهؤلاء القوم-: قد يجوز أن يكون قد قضوا ركعتين ركعتين ولم ينقل ذلك في الخبر اكتفاء لدلالة مرأى الحال عليه، وهذا الباب واسع شائع ذائع.

                                                قوله: "وإن كانوا لم يقضوا ... " إلى آخره، جواب على تقدير عدم القضاء، بيانه: وإن سلمنا أنهم لم يقضوا شيئا; فكذلك لا حجة لكم فيه أيضا; لأنه قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - قد فعل ذلك حين كان يصلي الفريضة مرتين، فتكون كلتا الصلاتين فريضة، فلما نسخ ذلك انتسخ ذاك أيضا.

                                                قوله: "وقد كان يفعل ذلك ... " إلى آخره، إشارة إلى بيان ما ذكره من قوله: "والفريضة حينئذ تصلى مرتين" أي: قد كان يفعل تكرار أداء الفريضة في ابتداء الإسلام، ثم نسخ.

                                                واستدل عليه بما أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد روى له الجماعة، عن حسين بن ذكوان المعلم البصري روى له الجماعة، عن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص احتج به الأربعة، عن سليمان بن يسار الهلالي أبي أيوب المدني مولى ميمونة زوج النبي - عليه السلام - أخي عطاء بن يسار ... إلى آخره.

                                                [ ص: 251 ] وأخرجه أبو داود : ثنا أبو كامل، ثنا يزيد -يعني ابن زريع- عن عمرو بن شعيب ، عن سليمان مولى ميمونة قال: "أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، قلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت (قد صليت) إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: لا تصلوا في يوم مرتين".

                                                وأخرجه النسائي : أنا إبراهيم بن محمد التيمي، قال: ثنا يحيى بن سعيد ، عن حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن سليمان مولى ميمونة قال: "رأيت ابن عمر جالسا على البلاط والناس يصلون، قلت: يا أبا عبد الرحمن، ما لك لا تصلي؟ قال: إني قد صليت، إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين".

                                                قوله: "ألا تصلي؟ " استفهام على سبيل الإنكار عليه.

                                                قوله: "في رحلي" أي: في منزلي.

                                                قوله: "على البلاط" بفتح الباء الموحدة وهي ضرب من الحجارة تفرش به الأرض، ثم سمي المكان بلاطا اتساعا، وهو موضع معروف بالمدينة.

                                                قوله: "نهى أن تصلى فريضة في يوم مرتين" قال الخطابي: هذا محمول على صلاة الاختيار دون ما لها سبب كالرجل يدرك جماعة فيصلي معهم في غير العصر والصبح وقد كان صلى; ليدرك فضيلة الجماعة جمعا بين الأحاديث.

                                                قلت: هذا محمول على أن يصلي الفرض مرتين بنية الفرض في كل منهما، أو هو محمول على صلاة العصر والصبح; لأن تكرارهما منهي لورود النهي بعد الصلاة العصر والصبح، ويكون سؤال سليمان عن ابن عمر وجوابه إياه عند صلاة العصر أو الصبح.

                                                [ ص: 252 ] قوله: "والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة"; لأن النهي هو الحظر والمنع وذا لا يكون إلا بعد الإطلاق والإباحة.

                                                قوله: "في بدء الإسلام" أي في ابتداء الإسلام.

                                                قوله: "وترك ابن عمر - رضي الله عنهما -" كلام إضافي مبتدأ، وقوله: "يحتمل عندنا" خبره، وأشار بهذا إلى بيان معنى ترك ابن عمر الصلاة مع القوم، وهو أن ذلك يحتمل معنيين.

                                                الأول: أن تكون تلك الصلاة التي كان ابن عمر تركها صلاة لا يتطوع بعدها نحو صلاة العصر أو الصبح، فحينئذ لا يجوز أن يصليها إلا على أنها فريضة لعدم جواز التطوع، والصلاة على أنها فريضة أيضا لا يجوز لنهيه - عليه السلام - أن تصلى فريضة في يوم مرتين.

                                                والثاني: يحتمل أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - قد سمع من النبي - عليه السلام - النهي عن إعادة الفريضة وتكرارها مرتين مطلقا، ثم إن النبي - عليه السلام - قد رخص بعد ذلك أن تصلى على أنها نافلة، فلم يبلغ ذلك ابن عمر - رضي الله عنهما -، فترك الصلاة مع القوم بناء على ما سمعه من النهي عن إعادة الفريضة.

                                                فلما تحقق هاهنا احتمالان، نحتاج إلى نظر في ذلك، هل يوجد شيء من الآثار يحقق أحد الاحتمالين؟

                                                فنظرنا في ذلك فوجدنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي قد حدث عن أحمد بن خالد بن موسى بن وهب الوهبي الكندي الحمصي شيخ البخاري في غير الصحيح عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون أبي عبد الله روى له الجماعة -وقد ذكرنا أن الماجشون لقب لقب به لحمرة خديه- عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع مولى سعيد بن العاص المدني وثقه ابن حبان ، عن محرر -براءين مهملتين الأولى مفتوحة مشددة- ابن أبي هريرة وثقه ابن حبان وروى له النسائي وابن ماجه .

                                                [ ص: 253 ] وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع ، عن ربيعة بن عمار وأبي العميس ، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن ابن عمر قال: "صلاته الأولى" انتهى.

                                                فهذا الحديث قد دل على تحقق الاحتمال الثاني; لأنه قد رأى أن الصلاة الثانية تكون تطوعا، فدل على أن تركه الصلاة مع القوم في حديث سليمان مولى ميمونة إنما كان لأن تلك الصلاة كانت صلاة لا يجوز أن يتطوع بعدها فكانت، إما عصرا أو صبحا.

                                                قوله: "وإن كان حديثا أبي بكرة وجابر اللذين ذكرنا كانا والحكم ما وصفنا" أي: وجدا ووقعا، و"كان" ها هنا تامة و"الحكم" مبتدأ، وما وصفنا خبره، والجملة وقعت حالا.

                                                قوله: "جاز أن يعيدها" جواب "إن" في قوله: "وإن كان حديث أبي بكرة". وباقي الكلام ظاهر.

                                                قوله: "حدثنا أبو بكرة ... " إلى آخره، إشارة إلى تأكيد ما ورد من النهي عن إعادة الصلاة في يوم مرتين.

                                                أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حبان -بالفتح وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي روى له الجماعة، عن همام بن يحيى العوذي أبي بكر البصري روى له الجماعة، عن قتادة بن دعامة ، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عمرو بن شعيب ، عن خالد بن أيمن المعافري ذكره ابن أبي حاتم في الصحابة، وأنكر عليه أبو عمر بن عبد البر وقال: لا يعرف هذا في الصحابة ولا ذكره فيهم غيره.

                                                قلت: هذا مجرد إنكار فلا يسمع ذلك; لأنه لا يلزم من عدم ذكر غيره إياه في الصحابة أن لا يكون هو صحابيا، فقد يمكن أن يكون قد ثبت عند ابن أبي حاتم

                                                [ ص: 254 ] كونه من الصحابة، ويفهم من كلام الطحاوي أيضا أنه صحابي، فإذا اتفق إمامان مثلهما على شيء لا يبقى فيه مجال للإنكار والرد.

                                                وقد أخرج ابن أبي حاتم هذا الحديث في ترجمة خالد بن أيمن المعافري ، ونسبته إلى المعافر -بفتح الميم- بن يعفر بن مالك بن الحارث بن قرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان قبيل ينسب إليه كثير، عامتهم بمصر.

                                                قوله: "كان أهل العوالي" وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها علوي على غير قياس.

                                                قوله: "قال عمرو" أي: عمرو بن شعيب .




                                                الخدمات العلمية